الإثنين, 8 سبتمبر 2025 08:53 PM

قمة شنغهاي: تحولات جيوسياسية متسارعة وتأثيرها على القضية الفلسطينية

قمة شنغهاي: تحولات جيوسياسية متسارعة وتأثيرها على القضية الفلسطينية

خلال الأيام الماضية، استضافت مدينة تيانجين الصينية قمة شنغهاي، مما أثار تساؤلات مهمة حول مستقبل الأحادية القطبية الأميركية في ظل صعود قوى دولية جديدة تحقق تقدماً ملحوظاً على الساحة العالمية.

تعكس مبادرات الصين، بدءاً من الدعوة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب ووصولاً إلى اقتراح إنشاء بنك تنموي خاص بمنظمة شنغهاي للتعاون، تحولاً كبيراً في موازين القوى. وقد تجسد ذلك في دعوة الرئيس الصيني شي جين بينغ الصريحة إلى نبذ الهيمنة وتطبيق "تعددية حقيقية" في العلاقات الدولية.

لم تعد الولايات المتحدة تحتفظ بمكانتها المركزية السابقة، حيث تواجه أزمات مالية داخلية وتدهوراً في البنية التحتية. في المقابل، يشتد التنافس من قِبل الصين وروسيا كقوتين اقتصاديتين وعسكريتين لا يستهان بهما. وأظهرت السياسات الحمائية التي تبناها ترامب أن الاقتصادين الأميركي والصيني يعتمدان على بعضهما البعض بشكل متبادل.

استضافت بكين في القمة أكثر من 20 زعيماً من دول الجنوب العالمي، بمن فيهم بوتين ومودي وإردوغان، في خطوة تؤكد بناء نموذج تعاون جديد خارج نطاق السيطرة الأميركية.

تضمنت القمة الإعلان عن خطة لإنشاء بنك تنموي للمنظمة، وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والذكاء الاصطناعي، وتشجيع استخدام العملات المحلية وتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي. وأكد شي جين بينغ أن المنظمة تتحمل "مسؤولية أكبر" في حفظ السلام والاستقرار وتعزيز الازدهار لدولها الأعضاء.

في ظل التراجع الأميركي النسبي ونجاح الصين في استثمار قمة شنغهاي لتقليل تأثير الدولار وبناء بدائل تنموية حقيقية، يبقى الموقف العربي على هامش الخيارات.

تؤكد الأرقام البعد العملي لهذه المبادرات، حيث تجاوز حجم التجارة بين الصين وأعضاء المنظمة 512.4 مليار دولار في عام 2024، وبلغت الاستثمارات الصينية أكثر من 84 مليار دولار بحلول يوليو/تموز 2025، مع صفقات سبقت القمة تجاوزت قيمتها 655.5 مليون دولار. كما أعلن شي جين بينغ عن تخصيص 2 مليار يوان كمساعدات مجانية هذا العام، وقروضاً بقيمة 10 مليارات يوان عبر اتحاد بنكي داخل المنظمة.

على الرغم من هذه المكاسب، تواجه التحالفات الجديدة تحديات داخلية، فالهند، على سبيل المثال، رفضت دعم بعض المبادرات مثل "الحزام والطريق" وامتنعت عن التصويت على بيانات دفاعية مع الصين وروسيا، مما يكشف عن هشاشة التعددية حتى داخل التكتل ذاته. في المقابل، فشلت إدارة ترامب في الوفاء بأي من وعودها الكبرى خلال ولايته الثانية، وهو الأمر الذي اعترف به ترامب علناً.

في مقابلة مع Daily Caller، أقر ترامب بأن قمة وقف إطلاق النار مع بوتين كانت "غير فعالة دبلوماسياً"، وأنه لم يحرز تقدماً ملموساً. وفي شأن غزة، بدا ترامب غير مكترث، حين صرح: "إما أن تطلقوا سراح جميع الرهائن الآن، أو أن أمركم انتهى… هذا تحذير نهائي".

ربما يكون النجاح البارز الوحيد الذي سجله ترامب على صعيد العلاقات المالية مع دول الخليج، حيث حصل على تريليونات الدولارات أسهمت فعلياً في تخفيف العجز في الموازنة الأميركية. ورغم ذلك، لم يسجل، سياسياً، أي اختراق حقيقي، ولم يتبنَّ أي شروط تُذكر بشأن وقف العدوان على غزة أو دعم مبادرة حل الدولتين التي رعتها السعودية وفرنسا.

في المقابل، عبّرت الصين في القمة عن دعمها الواضح لشعب فلسطين، كاشفة عن موقف داعم لحل الدولتين وموقف ممتد من مبدأ العدل والاستقرار بالمنطقة، ضمن إطار بناء علاقات مع الدول العربية لحل المسائل الساخنة في المنطقة. وقد سبق أن دعت المنظمة إلى وقف فوري للقتال، واحترام قرار حل الدولتين، ضمن مواقف متكررة سُجلت في بياناتها السابقة.

إلا أن المنظومة العربية فشلت، رغم العلاقات الجيّدة التي تجمع بعض العواصم مع الصين وروسيا، في استثمار هذا الدعم في صياغة خيارات مستقلة. فقد اكتفت بإصدار بيانات ترحيبية دون ترجمتها إلى سياسات فعالة، رغم قُدرة هذه القوى على دعم القضية الفلسطينية من منطلق اقتصادي وديبلوماسي.

في ضوء استمرار العدوان على غزة، وتصاعد الخطاب الإسرائيلي حول "إسرائيل الكبرى" وخطط ضم الضفة الغربية، فإنّ غياب موقف أميركي ثابت وافتقار العرب لاستراتيجية سياسية واضحة يجعلان القضية في مهب مشاريع تُدار خارج حدود المنطقة. كثير مما يجري في غزة وفلسطين ليس نتاج تطرف حكومي إسرائيلي فحسب، بل هو امتداد لمخطط أميركي – إسرائيلي يتبنّى الهيمنة على المنطقة ضمن مخططات جيوسياسية واسعة، تفرض تحدّيات حقيقية على المنظومة العربية بأسرها. يهدف هذا المخطط إلى السيطرة على منطقة غرب آسيا، نظراً إلى موقعها الاستراتيجي من جهة، وإلى الثروات الهائلة التي تكتنزها في اليابسة والبحر من جهة ثانية، في إطار حرب استباقية ضد جميع القوى المنافسة.

مقابل التراجع الأميركي النسبي ونجاح الصين في استثمار قمّة شنغهاي الأخيرة لتقليص تأثير الدولار وبناء بدائل تنموية حقيقية، يبقى الموقف العربي في الغالب على هامش الخيارات. ولعل الفرصة الآن مؤاتية لتبنّي رؤية استراتيجية عربية مستندة إلى الحقائق الجديدة، تشمل صياغة رؤية عربية تستفيد من التعدّدية الصاعدة، لا أن تتحوّل إلى لعبة ثانوية على مصالح دولية، وترجمة الدعم الصيني – الروسي إلى مواقف ملموسة سياسياً لصالح المنطقة والقضية الفلسطينية، وعدم الاكتفاء ببيانات بالترحيب، وإطلاق مبادرات اقتصادية وديبلوماسية مشتركة قوية تضغط عبر التحالفات الجديدة لإيقاف العدوان ووقف الحرب في غزة، والاعتراف أن بناء الاستقلال الاستراتيجي يتطلب تعاوناً عربياً داخلياً يكون قادراً على مواجهة استراتيجيات "إسرائيل الكبرى".

بذلك، تتحوّل قمة شنغهاي إلى أكثر من مجرد حدث ديبلوماسي؛ لتصبح نقطة تحوّل لمنظومة عربية واعية يمكن الاستفادة منها لتحقيق ولو الحد الأدنى من الحقوق والاستقلالية العربية.

مشاركة المقال: