بعد مرور تسعة أشهر على سقوط النظام السوري السابق، تشهد العلاقات اللبنانية السورية الرسمية مظاهر إيجابية مصطنعة، بينما يكمن في جوهرها جمود وتوتر عميق. على الرغم من الجهود المبذولة من الجانبين للحفاظ على علاقة "إيجابية"، إلا أن العقد القديمة والجديدة تعيق الدولة اللبنانية والإدارة السورية الجديدة، مما يجعل العلاقة بين البلدين تمر بظروف غير مسبوقة.
من وحدة "المسار والمصير" و"شعب واحد في بلدين" قبل 20 عامًا، إلى وساطات السعودية والولايات المتحدة الأميركية لترتيب لقاءات بين المسؤولين اللبنانيين والمسؤولين في الإدارة السورية المؤقتة، تتزايد الملفات وتتشعب وسط الانقسام السياسي في لبنان وتفكك الأراضي السورية، والتمدد الصهيوني من الناقورة إلى البادية السورية شرق السويداء.
ظاهريًا، بادر اللبنانيون إلى زيارة دمشق وتهنئة الرئيس المؤقت أحمد الشرع، حيث زاره أولاً الرئيس نجيب ميقاتي ووفد وزاري في بداية العام الحالي، ولم يتأخر الرئيس نواف سلام عن الزيارة أيضًا على رأس وفد وزاري بعد تشكيل حكومته. في المقابل، لم يكلف الشرع نفسه عناء إرسال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى لبنان، بل تكتفي الإدارة السورية بالوساطة السعودية للتواصل الأمني والعسكري، دون أن ينعكس ذلك على الجانب الدبلوماسي والسياسي.
الوساطة السعودية التي نجحت حتى الآن في تذليل العقبات بين وزيرَي الدفاع اللبناني والسوري، وبين مدير مخابرات الجيش العميد طوني قهوجي ومدير المخابرات السورية حسين السلامة، لم تصل بعد إلى حل ملفات التوتر والاختلاف في المجالات الأخرى.
الزيارة التي قام بها وفد من وزارة الخارجية السورية، (الوزير السابق مدير الشؤون العربية محمد طه الأحمد، الوزير السابق محمد يعقوب العمر ورئيس الهيئة الوطنية للمفقودين محمد رضا منذر الجلخي)، إلى لبنان والاجتماع مع نائب رئيس مجلس الوزراء طارق متري قبل أيام، حملت "طابع التعارف" والنقاش العام في الملفات المشتركة.
إلا أنها أكدت المقاربة التي ينظر إليها الحكم السوري الجديد نحو لبنان، من زاوية أولوية العلاقة مع الإسلاميين في سوريا ولبنان، وتصفية الحساب مع المرحلة السابقة. فرغم النقاش الإيجابي بين الطرفين خلال اللقاء، الذي استهلك متري الوقت الأطول منه في الحديث والشرح، فإن مداخلات الوفد السوري ظلت قليلة، وأبرزت أهمية ملف الموقوفين الإسلاميين في السجون اللبنانية، على الملفات الأخرى بين البلدين.
متري تحدث بوضوح عن موقف الدولة اللبنانية تجاه مختلف المسائل، محملاً الوفد عتابًا من السلطة اللبنانية، على إلغاء المواعيد المتكرر من المسؤولين السوريين لزيارة لبنان، (مع العلم أن أعضاء الوفد الثلاثة هم من المقربين من الشيباني، وكانوا مسؤولين في حكومة إدلب السابقة وهم من أبناء المحافظة ويحوزون شهادات في الشريعة). وبرر الوفد موقف الشيباني بأنه لا يريد الحضور إلى لبنان لمجرد الحضور، بل عندما تنضج التفاهمات والاتفاقيات، "فيأتي للتوقيع".
وبحسب المعلومات، تحدث الوفد عن لائحة اسمية للموقوفين الإسلاميين الذين تطالب بهم الإدارة السورية لبنان، ويصل عددهم إلى 350 سجينًا، بينهم 121 سوريًا، والباقي من اللبنانيين والعرب، إلا أن الوفد لم يقدم أي لائحة، معطيًا أهمية كبيرة لهذا الملف. وبعدما رد متري على تمسك الوفد السوري بطرح ملف الموقوفين الإسلاميين كأولوية، بالمطالبة بتعاون سوري لكشف مصير مفقودين لبنانيين يشتبه بوجودهم في سوريا، اتفق الطرفان على تشكيل لجنة قضائية عدلية من الطرفين لمناقشة ملف المفقودين والموقوفين من الجانبين.
وطرح الوفد السوري أمام متري فكرة تشكيل لجنة قضائية عسكرية لمناقشة ملف الحدود، دون أن يتم الحديث عن مزارع شبعا، مع الإشارة إلى أن وزير الدفاع اللبناني ميشال منسى ووزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة ناقشا ملف الحدود بحضور وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان قبل أشهر.
وكذلك استعرض متري العلاقات التاريخية بين البلدين والاتفاقيات، فاكتفى الوفد بالاستماع مع غياب أي معرفة بنصوص الاتفاقيات، رغم أن الإدارة السورية المؤقتة سبق أن ألمحت أكثر من مرة إلى نيتها تغيير الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، من باب النكاية بالنظام السابق أكثر منه للحاجة إلى التعديل أو التطوير. وانتهى اللقاء من دون أن يحدد الطرفان موعدًا جديدًا أو جدولًا زمنيًا.
تكشف هذه التفاصيل عمق الأزمة الحالية في الملفات المباشرة المشتركة، دون الخوض في الأحداث الأمنية والسياسية والصراع الجيوبوليتيكي المعقد الذي يربط مصير البلدين ارتباطًا جذريًا.
فالحدود بين البلدين لم تكن يومًا حدودًا حقيقية مع التداخل الديموغرافي والجغرافي، ومن الصعوبة جدًا أن تكون، لذلك يبدو انجاز الترسيم البري ونتائجه مهمة شديدة التعقيد في الكثير من المناطق، مع أهمية قيام لبنان باتخاذ كل الإجراءات الضرورية لضبط الحدود أمنيًا وعسكريًا على الأقل، لتلافي انتقال المخاطر من سورية إلى لبنان.
هذا عدا عن ملف مزارع شبعا، الذي يشكل العقدة الأبرز، علمًا بأن السفارة الفرنسية في بيروت والسفارة الفرنسية في دمشق، زودت الفريقين بخرائطها ومستنداتها للحدود في الأرشيف الفرنسي. وإذا كانت الحدود البرية ترتبط بالجانب الأمني والسياسي، فإن الترسيم البحري يشكل ملفًا شائكًا هو الآخر، خصوصًا مع التعقيدات التي تمسك بملف الترسيم البحري بين لبنان وقبرص ولبنان وسورية. فالزيارة التي قام بها الشيباني إلى اليونان زادت الملف تعقيدًا، مع المطالب اليونانية بأن لا يتم أي ترسيم للحدود البحرية بين سورية وتركيا على حساب قبرص.
طرح تغيير الاتفاقيات أيضًا يضع ضغطًا سياسيًا على العلاقة بين الطرفين، ويفتح ملفات من الصعب الوصول إلى تفاهمات حولها، مثل ملف مياه نهر العاصي وحفر الآبار في البقاع وحمص وريف دمشق. فالكثير من نصوص الاتفاقيات غير موجودة أساسًا في دمشق بحوزة الإدارة الجديدة، بعد أن تعرض مقر المجلس الأعلى اللبناني ـ السوري للسرقة والتخريب للأجهزة والخزنة التي تحوي رواتب الموظفين وتعويضاتهم عشية سقوط النظام السابق، مع رفض الإدارة الجديدة العمل مع المجلس حتى على الأمور التقنية، بتحريض أيضًا من جهات لبنانية ضد رئيس المجلس نصري خوري. فضلاً عن أن الاتفاقيات والتعديلات التي أبرمت أيام الرئيس سعد الحريري في 2010، لم تتم المصادقة عليها في البرلمان لا في لبنان ولا في سورية، لا سيما الاتفاقية القضائية لتسليم المطلوبين، حيث يمنع القانون السوري تسليم أي مواطن سوري لأي جهة أجنبية.
وفي السراي الحكومي، تردد أن نتائج الزيارة يبنى عليها، ولكن، هناك عمل كبير يجب أن يقوم به الطرفان للتوصل إلى حلول دائمة، وأن ملف الموقوفين والمسجونين سيتم التعامل معه وفقًا للقوانين المعمول بها في لبنان، والآلية المتعارف عليها في حال طلب الاسترداد.