بينما تعلو نبرة خطاب الكراهية في بعض منصات التواصل الاجتماعي، اختار عدد من الفنانين السوريين أن يكون الفن هو السلاح النقيض، فـ"الريشة" تحولت إلى أداة للمصالحة، والجدران إلى مساحات للحوار، والألوان إلى جسر يرمم ما هدمته الحرب، في مسيرة إبداعية يقودها فنانون سوريون من مختلف المحافظات، بينهم فرزان شرف من السويداء وعزيز أسمر من إدلب، الذين جعلوا من الفن التشكيلي والغرافيتي فعلًا مقاومًا للانقسام، ورسالة إنسانية للسلم الأهلي.
صوت الألوان من السويداء
لم ينتظر الفنان فرزان شرف، ابن محافظة السويداء وعضو اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين، افتتاح المعارض ليعبّر عن رؤيته، بل حمل أدواته إلى الشوارع والساحات، محولًا الجدران إلى منابر مفتوحة للسلام والانتماء. يقول في تصريح خاص لمنصة: "الفن اليوم يقف في موقف وجودي ضد خطاب الكراهية، ويؤسس لمساحة من السلم الأهلي داخل المجتمعات المحلية". ورغم أنه لم يدرس الفن أكاديميًا، إلا أنه صقله بتجارب شخصية، ودمجه مع دراسته للمسرح وتنظيمه للعديد من الورشات والمعارض داخل سوريا وخارجها. أعماله، وخصوصًا في الجنوب السوري، تميزت برسائلها المباشرة ونبضها الشعبي، وابتعدت عن التعقيد لصالح خطاب بصري قادر على الوصول إلى الناس دون وسيط. ويضيف شرف: "هذا الفن حمل طابعًا ثوريًا وخفف من الفذلكات، ليحمل صوت الناس لأبعد مدى، لعل في الأفق من يرد له الصدى". فرزان لم يرَ في الفن ترفًا، بل مهمة أخلاقية، ووسيلة لرأب الصدع المجتمعي وإعادة بناء الثقة. فالألوان بالنسبة له قادرة على تفكيك الحواجز النفسية وزرع بذور الأمل في أكثر اللحظات سوادًا.
عزيز أسمر: جدران سوريا تنطق بالوحدة
وفي سياق مشابه، يروي الفنان عزيز أسمر تجربته بعد تحرير العديد من المدن السورية، إذ قام بجولات رسم مع فنّانين من مختلف المناطق، جمعتهم الريشة والرسالة. يقول: "الرسم لغة تجمع ما تفرقه السياسة، لأن حروفها تنبع من القلب وتصب في القلب". يصف أسمر مشاهد الترحيب والكرم التي قوبل بها مع فريقه في مدن مثل مصياف والسلمية والسويداء، ويستحضر لحظة تعطلت فيها سيارتهم ذات اللوحة الإدلبيّة، حيث تهافت الناس لمساعدتهم دون اكتراث للهويات والانتماءات. ويضيف: "تلك الحواجز الاسمنتية التي زرعها النظام بين المدن، والحواجز النفسية التي زرعها بين النفوس، انهارت وتبددت مع أول لقاء". تحولت رسومات أسمر ورفاقه من التعبير عن القصف والتهجير إلى مشاهد مفعمة بالبهجة والانتماء، وارتكزت معظم اللوحات على عبارتين بسيطتين تحيطان بخارطة خضراء لسوريا: "الشعب السوري واحد" و"سوريا لكل السوريين". ويختتم حديثه بالإشارة إلى زيارات إعلامية من وفود تايوانية وفرنسية وأمريكية اطّلعت على هذه الجداريات، التي تحدثت بلغة الفن عن قضايا وهموم السوريين حتى قبل التحرير.
الفن في وجه العنف: رسالة تتجاوز الأطر الجمالية
في بلد مزقته الحرب، يبقى الفن أحد أبرز أدوات المقاومة المدنية، لا لمجرد التجميل، بل كوسيلة لمعالجة الجراح النفسية والاجتماعية. الفنانون السوريون لا يرسمون فقط، بل يداوون، ويعيدون للناس ما سُلب منهم من مشاعر وأمل وانتماء. وبين ريشة شرف وألوان أسمر، نرى كيف يمكن للصورة أن تكون أقوى من الخطاب العنفي، وأن تحوّل الحائط الصامت إلى صفحة ناطقة بالمحبة والانفتاح.