الثلاثاء, 12 أغسطس 2025 03:06 PM

رحلة العودة إلى سوريا: استكشاف الذات والمكان بعد سنوات من الغياب

رحلة العودة إلى سوريا: استكشاف الذات والمكان بعد سنوات من الغياب

كنت أرى الأرض بعينين مختلفتين: عين الموثّقة وعين الناجية. عاينت الحقيقة في شقوق الجدران وأبواب البيوت المغلقة. في العودة، ثمة سؤال لا يفارقني: هل نعود حقاً إلى الأمكنة، أم نعود إلى نسخ قديمة من أنفسنا تركناها هناك؟

في سياقات المنفى، تكتسب العودة دلالة مركّبة تتجاوز كونها مجرّد حدث شخصي. غالباً ما تُختزل العودة في مخيلتك بأنك تظن أنك سوف تستعيد مكانك القديم في الحياة والمدينة والذاكرة عندما تعود، لكن الحقيقة أن العودة هي الامتحان الأشد قسوة، فهي اختبار لقدرتنا على مواجهة أنفسنا قبل مواجهة المكان، اختبار لطبقات الغياب المتراكمة في أرواحنا، ولكل ما تغيّر فينا ونحن بعيدون. في هذا النص، أسعى إلى قراءة تجربة عودتي إلى سوريا بعد ثلاثة عشر عاماً من الغربة، من منظور توثيقي وإنساني وأكاديمي، بوصفي باحثة وموثّقة للانتهاكات وناجية من الاعتقال والنفي، محاولةً تفكيك أسئلة العودة بوصفها حدثاً شخصياً وسياسياً وأخلاقياً يعيد تعريف علاقتنا بالمكان والهوية والعدالة.

العودة: فعل مواجهة بين نسختين

لطالما اعتبرت أن المكان ليس مجرد حيز فيزيائي، بل هو إنتاج اجتماعي يتشكل عبر التفاعلات والذكريات والقيم. وبذلك، فإن العودة إلى مكان الطفولة أو المدينة الأم بعد غياب طويل، خاصة إذا كان غياباً قسرياً، ليست مجرد “زيارة”، بل هي مواجهة بين نسختين: نسخة الذات التي غادرت ونسخة المكان الذي أعيد إنتاجه دونها. إذ تختبر الذات أثناء العودة هشاشة هويتها أمام تغيرات لم تكن جزءاً منها. تغيّرات توثّقها ذاكرتنا العاطفية بما يتجاوز الصور والشهادات. لِثلاثة عشر عاماًَ، كانت العودة إلى سوريا فكرة مستحيلة، وكان الحرمان من العودة جزءاً من حياتي اليومية، أفتح الأخبار كل صباح لأرى مدينتي دون أن أستطيع لمسها، أكتب عن مدن لم أطأها منذ سنين، أراقب من بعيد تراجيديا البلاد اليومية وأواصل توثيقها قدر استطاعتي، لكن ظلّ هناك دائماً شيء ناقص لا يكتمل إلا بعودة الجسد إلى الأرض.

المنفى القسري والاغتراب الداخلي

عرفت معنى الحرمان من العودة حين كنت في إدلب بعد خروجي من حماة أواخر عام 2013؛ كنت داخل حدود البلاد الجغرافية لكنني خارجها نفسياً. كنت أرى جبالاً وطرقاً أعرفها جيداً لكنني لا أستطيع الوصول إلى بيتنا في حماة، أسمع أسماء قرى وطرق حفظتها طفلةً لكنني محرومة من المرور بها. كانت المسافة بيني وبين مدينتي أقسى من المنفى الخارجي، لأنها مسافة مصنوعة من الحواجز الأمنية والحصار والمنع. وعندما غادرت خارج الحدود إلى تركيا في عام 2020، صار الحرمان أشد وطأة. في المنفى، تصبح العودة حلماً مستحيلاً لفرط ما تتكرر في الذهن، ولأن هذا النفي يغدو الواقع الوحيد الذي تعرفه. في 26 حزيران/ يونيو 2025، عندما تخطّيت معبر باب الهوى، انكشفت الحقائق أمامي دفعة واحدة، حقائق ملأتني لسنوات دون أن أميّزها بوضوح. حقيقة بسيطة لكنها هائلة أن لي وطناً عدت إليه بعد انقطاع قسري طويل.

حماة: المدينة بوصفها ذاكرة موثقة ومكسورة

عودتي إلى حماة كانت مواجهة مع مدينة وثّقتها لسنوات. دخلتها بعد غياب امتد منذ 2013، محمّلة بذاكرة متراكمة. عدت إلى شوارع خبرتُها هاربةً من الملاحقات الأمنية، وإلى بيوت كانت ملاذًا لي يومًا. قبل أن تدفعني إلى قدر الهروب الذي كنت أظنه أبديا. ولدت في حماة بعد عشرة أعوام من مجزرتها الكبرى، التي قوات الأسد الأب عام 1982. عشت على همسات الخوف التي تتسرّب من الكبار إلى وعي الصغار. في 2011، عندما صدحت حناجر الناس من أجل الحرية، كنت أوثّق تفاصيلهم وهتافاتهم، ليس لأنني أحب الأرقام، وإنما لأنني كنت أخشى عليهم من الغياب، من أن يصيروا مجهولين في ذاكرة مدينة تتقن الاختباء حفاظاً على بقائها. في عام 2012 للاعتقال ثمة شيء غريب يحدث حين تُعتقل: تنفصل عن نفسك، وتعيش في حالة مراقبة دائمة. قضيت عاماً في السجن، وخرجت منه كما يخرج شخص من حياة كاملة: حيّ لكنه غريب عن كل شيء. بقيت في حماة حتى نهاية عام 2013، أحاول أن أعيش حياة عادية، لكن الحياة العادية لم تكن متاحة لمثلي. خرجت مطاردة، ملاحقة، ووجدت نفسي في إدلب نازحة داخل بلدي، اختبرت لسنوات القصف والبراميل والمجازر. ثم في تركيا لاجئة، وفيها ظننتني قد نجوت، لكن الغريب في النجاة أنها ليست خلاصاً بالضرورة. النجاة قد تكون أحياناً موت مؤجل، غياب ممتد. عشت خمسة أعوام في تركيا واصلت خلالها عملي في التوثيق. كنت أكتب عن سوريا، عن المدن التي لم أطأها منذ سنين، عن المعتقلين والمختفين والقتلى، أكتب عن وجوه لم أرها ولكن أعرف ملامحها الداخلية. كنت أوثّق حتى لا تضيع حقوقهم، وربما كنت أوثق حتى لا أضيع أنا!

العودة: أسئلة المكان والذاكرة

مع سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، تغيرت خارطة السلطة وتغيرت الشعارات، وكذلك تغيرت ملامح الوجوه في الشوارع، وحان موعد العودة. وأنا أعبر الطريق إلى حماة، كنت أسأل نفسي سؤالاً واحداً: هل تختبرنا الأمكنة حين نعود إليها… أم نحن من يختبرها؟ كنت أرى الأرض بعينين مختلفتين: عين الموثّقة وعين الناجية. عاينت الحقيقة في شقوق الجدران وأبواب البيوت المغلقة. في العودة، ثمة سؤال لا يفارقني: هل نعود حقاً إلى الأمكنة، أم نعود إلى نسخ قديمة من أنفسنا تركناها هناك؟ وهل يمكن للمدينة أن تمنحنا الغفران حين نعود، أم أنها تستقبلنا ببرود الحجر وصمت الجدران؟

بين الطريق والمدينة: مشاهدات أولى

بعد هذه الأعوام، عندما دخلت إلى حماة شعرت كأنني أسير في حلم قديم أعدته بذاكرتي آلاف المرات لكنه هذه المرة أكثر واقعية من قدرتي على الاحتمال. كأن ذاكرتي صنعت لنفسها نسخة مثالية من المدينة، لأن المدينة بدت أكثر تعباً وخراباً من كل الاحتمالات والسيناريوهات التي رسمتها. على الطريق المؤدي إلى حماة، تراءت لي الأشجار المغطاة بالغبار والأشواك اليابسة ومن خلفها المنازل المدمرة. هنا يهاجمك كل شيء دفعة واحدة: الحنين والأسى، الحب والغضب، تناقض يفوق الاحتمال. دخلت مدينتي من الجهة الشمالية. وقفت أمام لوحة “حماة ترحب بكم” كمن يضمّ ضالته، ثم يمهد له لاستقبال الخراب. الناس ما زالوا يتحدثون عن سقوط النظام كأنهم لم يعتادوا فكرة غيابه بعد، كأنهم يخشون أن يكون كابوساً آخر ينتهي باعتقال جماعي جديد. رأيت في عيونهم بريقاً عندما يذكرون يوم السقوط، لكن ابتساماتهم تنطفئ سريعاً تحت وطأة حياة ما زالت قاسية وثقيلة. كل شيء بدا لي مألوفًا وغريبًا في آن. هذا هو امتحان العودة الأصعب: أن ترى مدينتك التي حُرمت منها واقعة أمامك، لكنها لم تعد نفس المدينة التي حرمتك. أدركت حينها أن العودة ليست انتصارًا بسيطًا على الغياب. العودة اختبار قاسٍ لقدرتك على التحمّل، على الاعتراف بالتغيرات التي حدثت بدونك، وعلى الاعتراف بالتغيرات التي حدثت داخلك أيضًا.

حمص: مدينة السجن والذاكرة

بعد أيام من عودتي إلى سوريا، ذهبت إلى حمص في زيارة أشبه بزيارة لذاكرة شخصية وجماعية في آن واحد. حمص ليست كأي مدينة أخرى بالنسبة لي، هي المدينة التي قضيت فيها الجزء الأكبر من اعتقالي؛ في سجن حمص المركزي، وفي فرع الجوية. عندما كنت معتقلة هناك، لم أرها إلا من شقوق الحديد في السيارة المصفحة، كنت أرى السماء كشريط أزرق ضيّق، أحاول تخزين ذاك اللون لأيام العتمة الطويلة. كانت المدينة كلها، بالنسبة لي، شريط سماء وذكرى زنزانة، إلى أن رأيتها كاملةً للمرة الأولى، مدينة ناجية رغم الدمار، لكنها احتفظت بندوبها دون إخفاء. الآن، بعد أيام من عودتي إلى حماة، أجلس على سطح بيتنا القديم، أراقب شمس تموز/ يوليو وهي تغرب خلف المآذن، أسأل نفسي: هل عدت حقاً؟ أم أن العودة وهم جميل نركض خلفه لننجو من فكرة أننا بلا مكان؟ ربما العودة ليست إنهاءً للغياب، بل شكلٌ آخر له؛ شكلٌ نختاره هذه المرة بوعينا الكامل، ونخوضه بكل ذاكرة الألم التي نحملها دون خجل. العودة لا تشفي شيئاً. هي لا تلغي المنفى ولا تعيد من فقدناهم، لكنها تمنحنا شيئاً صغيراً لا تمنحه المنافي: تمنحنا حق البقاء أو الاختيار، حق أن نبقى في مدننا على طريقتنا، أن نلمس حجارتها بأصابعنا قبل أن نختار أن نغادرها ثانيةً أو نبقى فيها. العودة بعد ثلاثة عشر عاماً علّمتني أن الوطن لا يعود إلينا كما تركناه، ولا نعود إليه كما كنا، لكنه يظل المكان الوحيد الذي نملك فيه حق الحزن وحق الفرح دون تهمة.

العودة كفعل توثيقي وأخلاقي

في عملي بتوثيق الانتهاكات، أعي أن العودة لا تمثّل حدثاً شخصياً فقط، وإنما هي فعل توثيقي وأخلاقي في آن واحد. تتيح العودة إعادة وصل المعرفة النظرية بالتجربة الحيّة، وتمنح الموثّق فرصة معاينة ما وثّقه مسبقاً كجزء من عملية فهم مستمرة، حيث يتداخل النص مع الميدان، والفرد والجماعة، في إنتاج سردية أكثر شمولاً. تُذكّرني العودة بأن التوثيق ليس مجرد تجميع للبيانات أو الشهادات، بل هو فعل أخلاقي يحمي الذاكرة من التلاشي، ويحمي البشر من التحوّل إلى أرقام صامتة. عندما أعود إلى الأماكن التي كتبت عنها، لا أرى الحقائق فقط، بل أرى سياقاتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية مجتمعةً، بما يعمّق الفهم ويعيد توكيد التزامي تجاه من وثّقت قصصهم وتجاربهم. بهذا المعنى، تصبح العودة امتداداً لعملية التوثيق لا غايتها، فهي لحظة تعيد التذكير بأن التوثيق فعل مقاومة للنسيان ووسيلة لحماية الكرامة الإنسانية والذاكرة الجمعية، وبأن الشهادات والصور والأرقام ليست معطيات جامدة، بل حيوات بشرية لها وجود وأثر وقيمة تتجاوز النصوص إلى الواقع ذاته. تكشف العودة في جوهرها عن كونها فعل يتجاوز استعادة المكان أو مواجهة الذات، لتصبح أداة تفكير نقدي تُعيد تقييم معنى التوثيق نفسه. فهي لا تمنح إجابات جاهزة، بل تفتح أسئلة جديدة حول الهوية، الذاكرة، والعدالة. وفي النهاية، قد لا تكون العودة نهاية للغياب بل شكل آخر من حضوره، لكنها تظل تذكيراً بأن وجودنا – كأفراد وباحثين وموثّقين – مرتبط دائماً بقدرتنا على رؤية المعنى فيما نوثّقه ونعيشه، دون انفصال بينهما.

مشاركة المقال: