الثلاثاء, 3 يونيو 2025 01:27 PM

من السوق إلى المحكمة: صراعات الذاكرة والبحث عن عدالة مؤجلة في سوريا

من السوق إلى المحكمة: صراعات الذاكرة والبحث عن عدالة مؤجلة في سوريا

أحمد عسيلي: في زمن مرتبك كالذي نعيشه، لا يُقاس الواقع فقط بما يُقال أو يُفعل، بل بما يُسقط من رموز على الأجساد والكلمات. في سوق الدحاديل بدمشق، كما في ردهات محكمة حلب، حدثت خلال أيام قليلة مواجهات بين أفراد، لكنها كشفت عن تصدع أعمق بين سرديتين، بين زمنين، وبين تصورات متعارضة للعدالة والسلطة والكرامة. في كلتا الحالتين، لا يبدو أن الصراع كان على ما قيل أو فُعل، بل على ما تمثله الشخصيات في عين الآخر، وما تثيره لا شعوريًا من مشاعر مكبوتة أو ذكريات مؤجلة.

في حادثة سوق الدحاديل، تقاطعت ثلاث شخصيات نسائية في مشهد متوتر، امرأة يبدو أنها مؤيدة للأسد، شتمت جميع رجال السوق دون أن يرد أحدهم عليها، وأظهرت بشتمهم تحديها الشخصي لهم جميعًا، ما جعل الناس يرون فيها صدى لصوت السلطة القديمة وتسلطها المرعب. في المقابل، كانت هناك امرأة أخرى، يُقال إنها تدعى “أم أحمد”، هجمت عليها وهي تصرخ دفاعًا عن الثورة ورفضًا لمن “يسكت عن الظالم”. وبينهما، ظهرت امرأة ثالثة، لم ترفع صوتها، اقتربت محاولة التهدئة، وكأنها تذكير بأن الخلاف قد لا يحل بالصراخ.

على بعد مئات الكيلومترات شمالًا، وقعت حادثة أخرى، قاضٍ قيل إنه كان يعمل في محكمة “الإرهاب” التابعة للنظام الساقط، يدخل في خلاف مع مسؤول أمني يُنظر إليه اليوم على أنه من “رموز الثورة”، فيتهم القاضي هذا المسؤول ويأمر بسجنه، في خطوة بدت للبعض كأنها محاولة من “أشباح النظام” لاستعادة اليد العليا. الشارع انقسم: هل يُحترم قرار القاضي بوصفه ممثلًا للشرعية القانونية، أم يُرفض لأنه استمد شرعيته من زمن القمع والاعتقال؟ هنا أيضًا، لم يكن الصراع على القانون، بل على الرمزية.

ما يجمع الحادثتين هو حضور إسقاطات التاريخ- الحاضر بكل عنفه واضطراباته، تتقاطع وتعيد تشكيل الواقع بعين كل طرف. يمكن فهم هذه اللحظات من خلال ما يسمى في التحليل النفسي بـ”التماهيات الإسقاطية المتقاطعة” (identifications projectives Croisées)، وهو مفهوم يرتكز على نظريات ميلاني كلاين حول الإسقاط كآلية دفاع لا واعية، وطوّره لاحقًا المحلل الفرنسي ريني كايس، ليتناول الحالات التي يتبادل فيها طرفان إسقاطاتهم اللاواعية بحيث يرى كل واحد الآخر كما يحتاج لا شعوريًا أن يراه، لا كما هو عليه فعلًا.

في الحالة الأولى، تحولت المرأة التي لم تسب الأسد إلى صورة لا واعية للعدو، فتم تحميلها معنويًا مسؤولية القمع وكأنها “القصر الجمهوري بعينه”. تم إسقاط الخوف والغضب والخذلان عليها دفعة واحدة، لكن دون عنف جسدي (هذه خطوة متقدمة في مسار المجتمع السوري)، أما “أم أحمد” التي هاجمتها، فقد أصبحت بدورها تمثيلًا لمقاومة الصوت المكبوت، حتى لو جاء ذلك في لحظة التباس، هي الأخرى لم ترَ امرأة تتكلم، بل صورة المؤيدة، أي العدو الذي يجب فضحه أمام الملأ، المرأة الثالثة، بدورها، لم تكن فقط مسالمة، بل مثّلت محاولة يائسة لاحتواء الانفجار بين الحاضرين.

في حلب، لم يكن القاضي وحده من أصدر الحكم، الذاكرة الجماعية أصدرت أحكامها كذلك، فالرجل الذي كان يجلس يومًا خلف طاولة المحكمة، ممثلًا لسلطة القمع، عاد ليستخدم نفس أدوات القانون، لكن في واقع تغيّر. عنصر الأمن، بدوره، لم يُنظر إليه كمجرد موظف، بل كرمز للثورة، للدم، للشرعية البديلة، هنا، اصطدم منطق الدولة بمنطق الثورة، اصطدم منطق النصوص المكتوبة بلغة القانون بمنطق التجربة المكتوبة بلغة الدم.

هذه المشاهد، في عمقها، ليست فقط نتيجة احتقان سياسي أو تراكم مظالم، بل هي مرآة لتمزق الهوية السورية المعاصرة، كل فرد يحمل داخله سيرة ما، طرفًا ما، ألمًا ما، وحين يصادف وجهًا يُذكّره بما حل به، يبدأ العرض، يبدأ التمثيل الصامت للذاكرة في صورة صراخ أو قرار أو حتى لكمة. ما حدث هو أكثر من مشاجرات، إنها نداءات للعدالة، للوضوح، للاعتراف، حين يعجز المجتمع عن قول الحقيقة، يبدأ لا وعيه بالصراخ (كحالة الجسد تمامًا) حين لا يجد الناس سبيلًا للتعبير عن وجعهم في المحاكم، يرفعون أصواتهم في الأسواق وعلى الأرصفة، وحين تبقى الرموز القديمة بلا محاسبة، تغدو كل مواجهة محتملة مسرحًا لاسترجاع التاريخ على أجساد الآخرين.

لذلك، تبدو الحاجة ملحّة إلى عدالة انتقالية حقيقية، لا فقط بوصفها آلية قانونية، بل كإطار يتيح إعادة كتابة العلاقة بين الناس وذاتهم، بين الفرد والجماعة، وبين الذاكرة والاعتراف، العدالة هنا ليست فقط لمن ارتُكب بحقه الانتهاك، بل للذين ما زالوا عالقين في مواقع الالتباس، للذين شاهدوا الظلم فسكتوا، فتحولت قلوبهم إلى جمر، للذين لم يشاركوا فعليًا لكنهم شجعوا بصمتهم أو بكلامهم، هؤلاء يحتاجون إلى العدالة بقدر ما يحتاج إليها المنكوبون، لكي نكون قادرين جميعًا على طي تلك الصفحة بكل مآسيها، وحدها عدالة تُنصِت لكل الأصوات، وتُضيء الزوايا المظلمة، قادرة على تهدئة النفوس، قبل أن يتحول كل سوق وكل محكمة إلى ساحة تصفية حسابات ما زالت عالقة إلى الآن.

مشاركة المقال: