في مشهدٍ يختزل صمود السوريين وعزيمتهم، تتنفس مدينة معرة النعمان في ريف إدلب الجنوبي مجددًا، بعدما عاد إليها أكثر من ألفي عائلة خلال الأشهر الستة الماضية، متحدين مشاهد الدمار والأنقاض، وغياب الخدمات الأساسية، ليصنعوا من بين الركام بذورًا لحياة جديدة.
قرار العودة رغم الصعوبات
العودة إلى المدينة لم تكن سهلة، لكنها كانت خيارًا حتميًا لكثير من السكان الذين ضاق بهم الحال في الخيام، كما يروي وليد الإدلبي في حديث خاص لمنصة “” قائلًا: “رغم الدمار الكبير ونقص جزء من الخدمات، الأهالي يعودون تدريجيًا. اليوم نرى الناس تفتح محالها، وتنتعش الأسواق شيئًا فشيئًا. أكثر من 2000 عائلة رجعت إلى المعرة، ليس فقط من المدينة، بل من الريف الشرقي والغربي والجنوبي، ويقصدون بازار السبت وأسواق الخضار كما كان الحال قبل الحرب”.
إصرار على البقاء رغم انعدام المقومات
وبرغم قسوة الواقع، ومعاناة الناس من غياب الكهرباء وصعوبة تأمين الخبز، فإن الأهالي لم يستسلموا. عاد كثير منهم للسكن في البيوت المدمرة، يرممونها بما توفر، ويثبتون الأغطية والبطانيات بدل الأبواب والنوافذ الأصلية، فقط ليظلوا في مدينتهم التي لا يرون بديلاً عنها.
خدمات تعود تدريجيًا
بموازاة هذه العودة الشعبية، بدأت بعض المرافق الأساسية بالعمل مجددًا. وأوضح الإدلبي: “من أهم الخطوات كانت إعادة افتتاح المركز الصحي، ومن المقرر أن يتم افتتاحه رسميًا خلال الأيام القليلة المقبلة، وهو من أبرز الخدمات التي يحتاجها السكان اليوم”.
الأسواق تنبض مجددًا بالحياة
من جانبه، يصف محمد الحاج خلوف، أحد سكان المدينة، كيف بدأت معالم الحياة تعود رغم الدمار الكبير، ويقول: “الناس يعملون بأيديهم، يزيلون الركام ويصلحون محالهم بأنفسهم. كل محل تضرر يحاول صاحبه ترميمه أو فتح محل بديل. عادت محال الخضار وصيانة الدراجات النارية وبيع المواد الغذائية إلى العمل. ومن المقرر أن ينطلق يوم السبت المقبل بازار كبير، رغم أن المدينة كانت مدمرة بالكامل، لكن إرادة الأهالي القوية تصنع الفارق”.
حياة فوق الأنقاض
ورغم أن عودة الحياة لا تعني انتهاء المعاناة، فإن ما يحدث اليوم في معرة النعمان يمثل صورة مصغرة عن الأمل الذي يتمسك به السوريون في وجه الانهيار. فالمشهد لا يقتصر على فتح دكان أو ترميم جدار، بل يتعداه ليكون فعل تحدٍّ للظروف، وإعلانًا عن تمسك السكان بجذورهم، مهما اشتدت قسوة النزوح والحرمان.
الأسواق الشعبية كمحرّك رئيسي للعودة
وتُظهر هذه العودة المتدرجة أن المدن السورية، رغم ما أصابها من تدمير ممنهج وتهجير قسري، قادرة على النهوض من جديد عندما تتوفر الإرادة، ولو بأبسط المقومات. إذ تشكل الأسواق الشعبية، والبازارات الأسبوعية، والنشاطات التجارية البسيطة، القلب النابض لهذه العودة، كما يراها الأهالي، ويستندون إليها في استعادة نمط حياتهم اليومي.
مطالب ملحّة لدعم البنية التحتية
يضيف خلوف أن هذا النهوض لا يُخفي الحاجة الملحة إلى دعم فعلي من الجهات الفاعلة في الشأن السوري، سواء من المنظمات الإنسانية أو السلطات المحلية، لتوفير البنية التحتية الأساسية من كهرباء وماء وتعليم وخدمات صحية. فالإصرار الشعبي، مهما كان قويًا، لا يمكنه وحده أن يعيد بناء مدينة تعرضت لتدمير واسع النطاق.
دور النساء في النهوض من تحت الركام
في مشهد العودة إلى معرة النعمان، لم تكن النساء غائبات عن الخطوات الأولى لإحياء المدينة. فقد حملن معهن عبء النزوح وقسوته، وها هن اليوم يقدن جهود الاستقرار بإرادة لا تقل عن الرجال. بعضهن عدن إلى منازلهن المهدمة، وبدأن من جديد، رغم غياب أبسط مقومات الحياة.
حنين إلى البيت رغم السقف المهدّم
تقول السيدة “أم أحمد”، وهي خمسينية عادت إلى منزلها في معرة النعمان بعد سنوات من النزوح: “عدت إلى منزلي رغم تهدم سقفه، واستعنت بقطعة قماش لحمايته من العوامل الجوية. فرشت الأرض بما توفر لدي، وفضلت الإقامة فيه على البقاء في خيمة لا تشبه شيئًا من ملامح الحياة الكريمة. للمنزل روح لا تُعوض، فيه عشت سنواتي، وتربى أولادي بين جدرانه. الغربة في المخيمات كانت قاسية، وكان الشعور بالاقتلاع من الجذور لا يُحتمل. اليوم، رغم الدمار، أشعر بالأمان بين جدران بيتي، وأتمسك بالأمل في أن تعود المدينة كما كانت، بل أفضل مما كانت عليه”.
مدينة لا تموت ما دام أهلها فيها
وفي ظل هذه الظروف، تبقى معرة النعمان نموذجًا لصمود السوريين، ورسالة مفادها أن الحياة ممكنة حتى من تحت الأنقاض، وأن المدن لا تموت طالما ظل فيها من يؤمن بأنها تستحق الحياة.