هزت حادثتا قتل فتاتين في مدينة منبج بريف حلب الشرقي الشارع السوري، وخلقتا حالة غضب واستنكار وحزن، بعد إقدام شقيق الأولى ووالد الثانية على قتلهما بإطلاق النار عليهما مباشرة، في جريمتين منفصلتين بذريعة “حماية الشرف وغسل العار”. الحادثتان وقعتا في نيسان الماضي، ضمن منطقة ريفية يغلب عليها الطابع العشائري، قالت مصادر محلية لعنب بلدي إن قتل الفتاتين جاء بعد الإفراج عنهما إثر اختطافهما من قبل مجهولين لعدة أسابيع.
إثر حساسية الموضوع، رفض عدة أشخاص الحديث عن الحادثتين، لكن مصدرًا ذكر أن الرواية الأكثر تداولًا أن الفتاتين أُفرج عنهما بعد عملية خطف تعرضتا لها من السوق، ما دفع ذويهما لقتلهما “غسلًا للعار”، وسط ضغط مجتمعي وإشاعات بشأنهما. لم تتحرك أي جهات محلية للبحث في الحادثتين، فالحكومة السورية سيطرت على المدينة مؤخرًا، ولم تتفعل فيها مراكز الشرطة، ولا توجد شكوى أو بلاغ بحق الجناة، بينما الوجهاء لا يتدخلون في هذه القضايا على اعتبار أنها “قضايا عائلية مرتبطة بالشرف”.
جريمة قتل الفتاتين واحدة من الجرائم بذريعة “حماية الشرف” أو “غسل العار” التي لا تزال تنتشر وتتواصل في سوريا، تغذيها العادات والتقاليد البالية، وتخلق لها بيئة تبرر الانتهاكات وتعيق تحقيق العدالة، بعضها يظهر للعلن، وبعضها تُدفن في نفوس العائلات والأقارب.
بذريعة “الدفاع عن الشرف”
الحادثة لم تكن بعيدة زمنيًا عن حادثة قتل الشابة ليليان أبو سرحان (23 عامًا) في مدينة السويداء، والتي أقدم والدها على قتلها وطعن والدتها خلال محاولة الأخيرة تخليص ابنتها من بين يدي الجاني. الجريمة في كانون الثاني الماضي، كانت بذريعة “الشرف” على يد عز الدين أبو سرحان والد ليليان، وصفها الأهالي بأنها “انتهاك صارخ للإنسانية”، مطالبين بمحاسبة الجاني وإنصاف الضحية، وتحقيق العدالة، ووقف هذا النوع من الحوادث.
مصادر من آل أبو سرحان، قالت لشبكة “السويداء 24” المحلية، إن والد القاتل أعلن تبرؤه منه، على خلفية ارتكاب الجريمة البشعة بحق ابنته وزوجته، مؤكدين أن الفتاة المغدورة بريئة من كل المعلومات المضللة التي يسوقها البعض على مواقع التواصل، والمزاعم الكاذبة أن الفتاة قتلت لأسباب تتعلق بالشرف. تقرير الطبيب الشرعي أكد عذرية الفتاة، وذكرت مصادر القرية للشبكة المحلية أن ليليان “تحمل من الشرف ما يفوق والدها المجرم، وكل من يحاول تشويه سمعتها أو تسييس قضيتها”، مؤكدين أن بعض الملابسات الغامضة في الجريمة من الصعب معرفتها دون سماع شهادة الوالدة التي تقبع اليوم بين الحياة والموت.
في كانون الأول 2024، جرى توقيف عاطف عزقول، والد الفتاة الضحية جلنار، لدى الأجهزة الأمنية في السويداء، بعدما أقدم على قتل ابنته، وقتل الشاب مازن الشاعر قبل ثلاثة أيام. وفق “السويداء 24″، فإن عزقول قرر تسليم نفسه للأجهزة الأمنية بعد ارتكاب الجريمة الثانية (قتل ابنته)، حيث استلمته مجموعة محلية تابعة لمهند مزهر والشيخ رامي اشتي في مدينة السويداء، ثم سلمته إلى إحدى الجهات الأمنية في المدينة.
وفي أيار 2023، أقدم شاب على قتل شقيقته في بلدة كويا بريف درعا الغربي طعنًا بسكين بذريعة “الدفاع عن الشرف”، وذلك بعد عودتها إلى منزل أهلها، عقب هربها منه لمدة عام، وزواجها شرعًا. وخلال ثلاثة أيام، شهدت مدينة رأس العين شمال غربي الحسكة جريمتي قتل بحجة “غسل العار” أو “الدفاع عن الشرف”، قُتلت فيهما ثلاث نساء في تشرين الأول 2023. وقُتلت الشقيقتان شهد وزهرة شحاذة على يد أخيهما في قرية المدان جنوبي رأس العين، نتيجة تسريب صور وتسجيلات مصورة (غير عارية) على غرف “تلجرام” (واسع الانتشار في المنطقة)، وتم ابتزازهما فيها. كما قُتلت زينب خلف الحمادة على أيدي شقيقيها محمد وأنس في منزلها بقرية العزيزية غربي رأس العين، نتيجة اشتباههما بدخولها بعلاقة “غير شرعية”، وسط ضغط مجتمعي بعد تداول قصة الفتاة.
غضب وحزن واسع في السويداء بعد مقتل الشابة ليليان على يد والدها – 21 كانون الثاني 2025 (السويداء 24)
أسباب ودوافع لارتكاب “جرائم الشرف”
في كتابه “جرائم بذريعة الشرف“، عرّف المحامي السوري أحمد صوان “جريمة الشرف” بأنها إقدام رجل على قتل امرأة من عائلته بسبب مسلكها أو لشبهة، أو تهمة إقامتها علاقة عاطفية، أو جنسية مع رجل غريب، لأن هذا الفعل يلحق العار بها وبعائلتها، مع اعتقاد القاتل أنه لا يمكن إزالة الآثار الاجتماعية لهذا الفعل إلا عن طريق القتل.
واعتبر صوان أن الخلل والتناقض في مصطلح “جريمة الشرف” أنه لا توجد جريمة شريفة، لأنه لا شرف للجريمة، و”جريمة الشرف” تسمية نبيلة لفعل خسيس، ومصطلح فيه التباس وإضفاء جانب أخلاقي على الجريمة، ولا يمكن أن يكون الشرف سببًا أو دافعًا لارتكاب جريمة أيًا كانت، كما أن الجريمة لا يمكن أن تمنح مرتكبها صفة الشرف.
ويرى صوان أنه من الضروري تغيير تسمية عبارة “جريمة الشرف” لأن تسمية هذه الجنايات بجرائم الشرف يعطي انطباعًا بأن مرتكبيها يدافعون عن الشرف، مع أنهم بعيدون البعد كله عن هذه الكلمة، لذا يجب تسميتها بجرائم العار، لأنها وصمة عار في جبين مرتكبيها، وجبين المجتمع الذي يغطي عليها ويعطيها المسوغات. ولم يطلق القانون السوري مصطلح “جريمة الشرف” على جرائم العِْرض، أو القتل غسلًا للعار، إنما تعارف الناس عليه، وشاع استعماله بين الكتّاب والصحفيين، منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وفصل المحامي السوري أحمد صوان في كتاب “جرائم بذريعة الشرف” الأسباب المباشرة وغير المباشرة لهذه الجرائم.
أسباب غير مباشرة
- التمييز والنظرة الدونية تجاه المرأة.
- الانحلال الخلقي نتيجة الفساد الإعلامي.
- قلة الوعي وتقصير الأهل في التربية المتوازنة المعتدلة القائمة على الصراحة والإقناع.
- التربية القائمة على الكبت حينًا وعلى العنف أحيانًا.
- ركام العادات والتقاليد التي يؤمن بها الشاب القاتل.
- طبيعة البيئة في المجتمعات الريفية، ما يخلق نوعًا من الاختلاط والبيئة المناسبة لحدوث علاقات عاطفية وجنسية.
- الأفكار المغلوطة والتقاليد الموروثة.
- أساليب التربية الشائعة التي تمنح الأخ الحق بتأديب أخته.
- الأعمال الدرامية التي تنشر فكرة القتل غسلًا للعار.
- تأخر سن الزواج من أسباب انتشار العلاقات غير الشرعية التي لا يستسيغها المجتمع.
- تطور التكنولوجيا في البيئات المغلقة، ما يؤدي إلى بروز جرائم لها علاقة بالهواتف الجوالة وتسريبات الصور مثلًا.
- الإشاعات القاتلة وتداول معلومات خاطئة ومضللة.
- أسباب قانونية مخفّفة، ما يشجع على المزيد من القتل والتمرّس بالإجرام.
أسباب لا علاقة لها بالشرف وتوصف تجاوزًا بأنها جرائم بذريعة الشرف
- سِفاح الأقارب بما معناه قتل الفتاة للتخلص من كشف قضية وقوع حالة اعتداء عليها من أحد أقاربها
- زواج الفتاة من شخص لا يروق لإخوتها.
- الوشاية الكاذبة والإشاعات القذرة.
- غياب الوعي المجتمعي.
- الشك
أسباب مباشرة
- الحمل غير الشرعي خارج نطاق الزواج.
- ممارسة الجنس من قبل الفتاة، أو فقدان البكارة نتيجة علاقة غير شرعية.
- المساكنة (علاقة زوجية كاملة بين شاب وفتاة دون وجود أي أوراق رسمية تثبتها)، والزواج العرفي(عقد غير موثق بين طرفين)، والزواج المختلط (الحاصل بين زوجين من دينين أو طائفتين أو مذهبين مختلفين).
- زواج الخطيفة أو الهروب.
كأي جريمة “قتل عمد”
تعد الجرائم بذريعة الدفاع عن الشرف من المواضيع الحساسة والمعقدة التي تلامس التداخل بين القانون، والثقافة، والدين، والمجتمع، وبقي التعاطي القانوني معها في سوريا محل انتقاد لسنوات، خاصة مع منح القاتل “عذرًا مخففًا” قبل أن يتم إزالته، حيث طالب حقوقيون ومنظمات بأن تعامل الحكومة السورية جميع القتلة على حد سواء وألا تستثني منهم المتورطين في “جرائم الشرف”.
الحقوقي والصحفي السوري عبد الكريم الثلجي، قال لعنب بلدي إن الجرائم المرتكبة بداعي “الشرف” كانت تحظى بعذر مخفف بموجب المادة “548” من قانون العقوبات السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم “148” لعام 1949، حيث نصت المادة سابقًا على منح الجاني عذرًا محلًا للعقوبة إذا أقدم على قتل أو إيذاء إحدى أصوله أو فروعه أو زوجه أو أخته بسبب “مشاهدة فعل فاضح”، مما كان يؤدي عمليًا إلى تخفيف العقوبة إلى الحد الأدنى أو الإعفاء أحيانًا.
وأضاف الثلجي أن مواد القانون قبل عام 2009، نصّت على أنّه يستفيد من “العذر المحل” من فاجأ زوجته أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود، أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو ايذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما، بغير عمد وترصد. وفي مطلع 2011، صدر مرسوم قضى بتعديل قانون العقوبات السوري، وشملت التعديلات تسع عشرة مادة، أبرزها على الإطلاق، تعديل المادة “548” من قانون العقوبات التي كانت تعاقب مرتكبي جرائم ما يسمى “جرائم الشرف” بالسجن سنتين كحد أقصى، بحيث أصبحت العقوبة، السجن من خمس إلى سبع. غير أن المشرع السوري أجرى تعديلات مهمة، وأُلغي العذر المحل بموجب المرسوم التشريعي رقم “1” لعام 2011، فأصبحت الجريمة تعامل كأي جريمة قتل عمد، مع إمكانية منح الجاني أسبابًا مخففة تقديرية إذا توافرت شروطها العامة، وفق الثلجي.
وبالتالي، العقوبة الأساسية لمرتكب الجريمة بداعي الشرف الآن هي ذاتها العقوبة المقررة لجريمة القتل العمد، أي الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام، إذا ترافقت مع سبق الإصرار أو الترصد أو كانت مقرونة بجناية أخرى. أما من حيث الردع، فرغم إلغاء العذر المحل قانونيًا، لا تزال هناك بعض الإشكاليات العملية، مثل السلطة التقديرية الواسعة للقاضي بمنح الأسباب المخففة، وتأثير الأعراف الاجتماعية والعشائرية التي قد تدفع نحو تخفيف العقوبة الواقعية. لذلك، يرى كثير من الحقوقيين أن النصوص القانونية بحاجة إلى دعم بآليات تطبيق حازمة وبرامج توعية اجتماعية، لضمان تحقيق الردع المطلوب، وفق عبد الكريم الثلجي.
وتابع الثلجي أن جريمة القتل، بما فيها القتل بدافع الشرف، وفق القواعد العامة في القانون السوري، هي من الجرائم التي تعتبر من النظام العام، ولا تحتاج لتحريك الدعوى العامة إلى تقديم شكوى من المتضرر أو ذويه. وبمعنى آخر، بمجرد علم السلطات المختصة بوقوع الجريمة، سواء عبر إبلاغ أو عبر التحريات، يوجب عليها تحريك الدعوى العامة مباشرة، دون حاجة لشكوى أو ادعاء شخصي.
استنادًا إلى ما سبق، يرى الثلجي أن عدم تعاطي بعض الجهات الرسمية مع هذا النوع من الجرائم في بعض المناطق لا يستند إلى نص قانوني، بل يعود غالبًا لأسباب اجتماعية أو عشائرية، أو لاعتبارات أمنية وسياسية محلية، مما يشكل خرقًا لالتزامات الدولة بملاحقة الجرائم ومحاسبة مرتكبيها.
وقفة لعدد من الأهالي في السويداء للمطالبة بوقف الجرائم بذريعة الدفاع عن الشرف ومحاسبة الجناة – 21 كانون الثاني 2025 (السويداء 24)
دور المجتمع المدني
يستمر وقوع الجرائم في سوريا، رغم وجود منظمات مجتمع مدني تقدم دورات واستشارات للسيدات، وورشات لنشر الوعي، وممارسة الضغط على صانعي القرار لتحسين وضع المرأة قانونيًا ومجتمعيًا. المنتدى الثقافي النسائي السوري من بين المراكز النشطة في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، ويعمل بشكل مباشر وغير مباشر على مناهضة الجرائم المرتكبة بذريعة “الدفاع عن الشرف”، من خلال عدة أنشطة ومبادرات توعوية ومجتمعية، وفق توضيح المنتدى لعنب بلدي.
من أبرز نشاطات المنتدى في هذا الصدد، تقديم جلسات توعية قانونية للنساء والرجال حول حقوق الإنسان، وشرح مغلوطات المفاهيم المجتمعية المرتبطة بـ”الشرف” والجريمة، وتقديم ورشات نقاشية مع فئات متعددة من المجتمع (نساء، رجال، شباب، ناشطين) تهدف لتفكيك البنية الذهنية التي تبرر هذا النوع من العنف، وتقديم دعم نفسي واجتماعي للناجيات والنساء المهددات، وتوفير مساحة آمنة لطلب المساعدة. ويطلق المنتدى حملات إعلامية و”فيديوهات توعوية” حول القوانين السورية، وأهمية المحاسبة العادلة بعيدًا عن الأعراف التي تشرعن القتل.
وفق توضيح المنتدى، فإن لمنظمات المجتمع المدني دور أساسي ومحوري يتمثل، بكسر الصمت المجتمعي حول هذه الجرائم، وتقديم الدعم القانوني والنفسي للنساء، والضغط على الجهات التشريعية لتعديل القوانين التمييزية، وبناء شراكات مع الإعلام والمؤسسات الدينية والمجتمعية لنشر خطاب يحترم حقوق الإنسان.
ومن الحلول التي يطرحها المنتدى الثقافي النسائي السوري للحد من وقوع الجرائم بذريعة “الدفاع عن الشرف”:
- إصلاح القوانين بشكل جذري، لضمان إلغاء أي تخفيف للعقوبات على مرتكبي الجرائم بذريعة الشرف.
- تغيير الخطاب المجتمعي عبر الإعلام والتعليم، وتفكيك ربط الشرف بجسد المرأة.
- تمكين النساء معرفيًا واقتصاديًا، لأن الاستقلال يسهم في حمايتهن من العنف.
- رفع وعي الرجال والشباب حول المساواة والعدالة وحرمة الدم.