الحرب بين إيران وإسرائيل، رغم المسافات الشاسعة وغياب الحدود المباشرة، ليست نابعة من رغبة حقيقية في النصر، بل تكشف عن عجز متبادل عن إنهاء الصراع. إنها تجسيد لـ "الصراع عن بعد"، حيث لا تسقط القذائف على خط تماس، بل عبر فراغ جغرافي مليء بالرمزية والاستراتيجية.
كل ضربة في هذا الصراع لا تقاس بنتيجتها العسكرية المباشرة، بل بصدها السياسي والنفسي. إنها ليست فعلاً هجومياً خالصاً، بل محاولة لإثبات الوجود والفاعلية في مشهد تآكلت فيه معايير القوة الكلاسيكية. وكل رد لا يهدف للدفاع عن الأرض عسكرياً، بل لحماية صورة الدولة أمام الذات والعدو والعالم.
المفارقة المريرة في الحروب الحديثة هي تحولها من أدوات لحسم النزاع إلى وسائل لتكريسه، ومن ساحات مواجهة واقعية إلى مرايا عاكسة لهشاشة النظام الدولي. عندما تصبح كل ضربة محسوبة وكل تصعيد مشروط بسقف سياسي، فإننا نعاين إدارة ممنهجة لانحدار استراتيجي طويل الأمد.
في هذا النمط من الصراعات، تتآكل السيادة لا حين تخترق الحدود، بل حين تفقد الدولة إرادتها لحماية القرار الحر. وتنهار الهيبة لا حين تهزم عسكرياً، بل حين تجبر على إطلاق النار كي لا تبدو ضعيفة، أو على الصمت كي لا تغرق في المجهول.
هذا الشكل من الحروب يعيد رسم مفهوم الأمن لا كوظيفة دفاعية، بل كأداء سياسي ملزم بالتظاهر بالثبات وسط الفراغ. في هذا السياق، لا يمكن الحديث عن أمن أو توازن، بل عن وضع يتقاطع فيه فائض القوة مع فراغ الرؤية والاستعراض مع غياب الإستراتيجية.
السؤال الأخطر لم يعد: "من يملك اليد العليا؟" بل: "كم من الوقت يمكن لتلك اليد أن تبقى مرفوعة قبل أن تسقط على رأس من يرفعها؟"