الأحد, 15 يونيو 2025 06:32 PM

حرب الصواريخ المباشرة: هل انتهى عصر الوكلاء ومن سيدفع الثمن الأكبر؟

د. سلمان ريا في مشهد يعيد صياغة هندسة القوة في الشرق الأوسط، يتهاوى قناع “حرب الظل”، وتغادر المواجهة بين إيران وإسرائيل دهاليز العمليات السرّية لتتفجّر على مسرح مكشوف، يكتب بلغته النارية معادلة قد تُنهي عصر الحروب بالوكالة وتستولد توازن رعب بلا ضوابط.

لقد فتحت طهران أبواب المواجهة في عملية “الوعد الصادق 3”، كاسرةً حاجز التردّد ومطلقةً ما يزيد على مئتي صاروخ وطائرة مسيّرة اخترقت قلب الكيان الإسرائيلي، فيما لم تتأخر تل أبيب في الرد بضربات خاطفة على منشآت نطنز النووية ومراكز أصفهان العسكرية، مستهدفة قلب المشروع الإيراني.

لم يعد المشهد يحتمل الغموض: نحن في لحظة ميلاد معادلة “الدمار المتبادل المضمون” التي تتجاوز الحسابات التكتيكية لتضع الإقليم على فوهة بركان قد ينفجر في وجه الجميع.

هذه الحرب لم تولد بغتة، بل كانت تُخمِرُها المخابر السياسية على نار هادئة. واشنطن التي سارعت قبل أيام إلى سحب رعاياها من المنطقة، لم تكن تغفو عن مسارات التصعيد، بل بدا وكأنها فتحت الضوء الأصفر لمنح مساحة محسوبة من الاشتعال تحت سقف مدروس. أما دونالد ترامب، الذي لا يزال صوته يتردد في أروقة القرار الأمريكي، فقد لخّص موقف بلاده بجملة ذات مفعول استراتيجي: “إيران لن تمتلك سلاحاً نووياً”. جملة قصيرة لكنها تحمل وزناً هائلاً، إذ ترسم الخط الأحمر الوحيد الذي لا تسري عليه قواعد المساومة.

في الميدان، تكسّرت العقائد التي شيّدها الطرفان لعقود. إيران التي طالما اعتمدت على أطرافها الإقليمية لضرب الخصوم عن بعد، أدركت أن زمن الوكلاء قد انقضى، وأن الضرب المباشر للمركز هو وحده ما يصنع الردع. إسرائيل، التي ظنت أن ضرباتها الجراحية قادرة على شلّ عدوها دون تكلفة، فوجئت بخصم نجح في اختراق منظوماتها الدفاعية وبلوغ عصبها الأمني.

بين انهيار هذه النظريات، يتبدّى أن الطرفين يتجهان إلى إعادة تعريف استراتيجياتهما: إيران نحو حرب استنزاف شاملة تضغط فيها عبر جبهات متزامنة من اليمن إلى غزة، وإسرائيل نحو حرب وقائية ممتدة تضرب فيها بلا انقطاع في محاولة يائسة لمنع الخصم من استعادة أنفاسه.

لكن التحوّلات الميدانية لم تكن وحدها التي قلبت الطاولة. لقد جاءت المواقف الإقليمية لتزيد المشهد تشابكاً. دول الخليج، التي طالما وُصفت بأنها ممرّ خلفي لهذه الصراعات، أعلنت هذه المرة حياداً واضحاً ورفضت فتح أجوائها لأي من الطرفين. مصر والأردن، وهما ركيزتان في معادلة الأمن الإقليمي، أغلقتا مجالهما الجوي دون لبس. سقطت بذلك شبكة التحالفات الكلاسيكية، وصعدت إلى المسرح قوى متوسطة كتركيا وباكستان، لا كحلفاء، بل كوسطاء إجباريين حين تعجز المدافع عن كتابة النهاية.

المعطيات الراهنة تُشير إلى ثلاثة سيناريوهات تتقاطع فوق رأس المنطقة. السيناريو الأكثر ترجيحاً يتمثّل في استمرار التصعيد بضربات موجعة تستمر لأسابيع معدودة، حتى تتدخل قوى دولية، تتقدمها الصين وسلطنة عُمان، لفرض هدنة تكتيكية تُجمّد البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف جزئي للعقوبات. سيناريو يُنقذ ماء وجه الطرفين، لكنه لا يُطفئ جذوة العداء.

أما السيناريو الثاني، الأخطر، فينذر بانفجار إقليمي واسع إذا ما اغتيلت شخصية إيرانية من العيار الثقيل أو ضُرب مفاعل بوشهر، ما قد يدفع حزب الله لفتح جبهة لبنان، ويُلهب الحراك العسكري في اليمن وسوريا والعراق، ويُجبر الولايات المتحدة على تدخل مباشر في حماية مضيق هرمز وتأمين شريان الطاقة.

ويبقى احتمال التهدئة الهشّة قائماً على استحياء، إذا ما فرضت الارتدادات الاقتصادية، عبر ارتفاع أسعار النفط وانهيار الأسواق الإسرائيلية، على الطرفين التراجع إلى خطوط اشتباك غير معلنة، تعيد الصراع إلى حافة حرب الظل مع وقف ضمني لعمليات الاغتيال والتخصيب العالي.

لكن ما يتجاوز هذه السيناريوهات هو السؤال الأعمق: من الخاسر الحقيقي في هذه الحرب؟ هذه المواجهة لا تهدد العتاد ولا تقتصر على معادلات الردع، بل تضرب في صميم شرعية الكيانات نفسها. إيران التي تبني سرديتها على مشروع مقاوم عابر للحدود، تخاطر بأن يتحوّل هذا المشروع إلى عبء داخلي يُسائلها شعبها عنه بثمن الدماء والدمار. إسرائيل التي تتغنى بأنها واحة الأمن في صحراء مضطربة، تغامر بأن ينكشف عجزها أمام العالم ككيان هشّ تتهاوى قبابه الحديدية أمام طائرات مسيّرة لا يتجاوز ثمنها بضع آلاف من الدولارات.

أما القوى الدولية التي تُدين التصعيد في خطاباتها، فهي في حقيقتها تُراهن على استنزاف الطرفين حتى تتهيّأ الساحة لرسم خرائط جديدة لا يكون فيها مركز واحد للقوة، بل فسيفساء من الكيانات المنهكة.

في لحظة كهذه، تبدو الصواريخ لغة عاجزة عن صناعة مستقبل آمن، بل تبدو كصدى لفشل عميق في بناء سلام يتجاوز منطق الغلبة. ربما الوعد الصادق الذي تحتاجه هذه المنطقة لا يُكتب بالنار، بل يُكتب حين يتحوّل الاشتباك من على شفاه البنادق إلى على طاولات يكتبها العقلاء، حين تدرك القوى أن السلام العادل ليس هدنة بين جولة وأخرى، بل هو قطيعة مع سلوكيات الحرب نفسها. لعلّنا بحاجة إلى من يجرؤ على كسر حلقة الدم هذه، لا ليصرخ أولاً، بل ليصمت أولاً ويفرض بهذا الصمت معادلة جديدة.

مشاركة المقال: