الأربعاء, 28 مايو 2025 11:03 PM

المظلومية كسلاح: كيف تتحول المعاناة إلى أداة للهيمنة والسيطرة؟

المظلومية كسلاح: كيف تتحول المعاناة إلى أداة للهيمنة والسيطرة؟

غالبًا ما يُنظر إلى الخطاب العام والسرديات بوصفها وسيلة لنقل الحقيقة أو توثيق الواقع كما تراه جماعة أو شريحة من الناس، ولكنه في أحيان كثيرة يتحول من مجرد وسيلة إلى أداة ممنهجة لإنتاج “الحقيقة” الوحيدة المقبولة اجتماعيًا في عملية إعادة صياغة كاملة للواقع، بحيث لا يعبر فقط عن آلام حقيقية أو مظالم وقعت بالفعل، بل يُعاد إنتاجه وتوجيهه لأهداف تتجاوز سرد المعاناة ليصبح أداة لتنظيم الهوية وفرض السلطة.

في هذا الواقع، تتحول المظلومية من سردية حول المعاناة وتجارب الظلم والإقصاء، إلى أداة لإنتاج سلطة رمزية، تتجاوز في هيمنتها بمراحل كثيرة هيمنة السلطة السياسية التقليدية، ويتم من خلالها احتكار التمثيل وإقصاء الأصوات النقدية، ويُختزل التضامن إلى طاعة والانتماء إلى تبعية فكرية، وتُغلق الساحة أمام أي مقاربة بديلة وسردية مغايرة، ويُعاد تشكيل المجال العام بالكامل بطريقة تخدم مشروع الهيمنة والسيطرة الكاملة.

في هذا الواقع المعاد صياغته، لا يُمنح حق الكلام للجميع، ولا يكفي الانتماء البيولوجي للجماعة المتخيلة، بل يجب المجاهرة بالمظلومية والتماهي معها وتبني معاييرها الحصرية للحكم على الأشخاص والوقائع. لا يجوز طرح الأسئلة ولا تقديم سرديات مختلفة – حتى لو انطلقت من الحرص على مصالح الجماعة ذاتها- ومن يفعل ذلك، يتم تسفيهه ونبذه وتخوينه وتجريمه وتُسحب منه شرعية الوجود والكلام.

في هذا الواقع المعاد صياغته، يتطور الخطاب ليشكل نظاماً متكاملاً من “أنظمة الاستبعاد”، ويتم تحويل خطاب المظلومية إلى خطاب شمولي لا ينتج فقط وعياً مشوهاً بالتاريخ والسياسة، بل يعيد هندسة الاصطفافات داخل المجتمع على أساس الانتماء للجماعة المتخيلة التي تصبح أضيق من الانتماء بالولادة لطائفة أو دين، بل تتحول إلى طائفة سياسية اجتماعية لها قواعدها الداخلية ومنطقها وسردياتها، التي تزداد ضيقاً حتى تبدأ في إقصاء أبنائها أنفسهم تحت اسم النقاء والولاء والطهرانية الثورية.

في هذه السردية، يصبح كل ما يخدم الهيمنة مبرراً: العنف، الإقصاء، وحتى القتل الرمزي والفعلي. وتتم إعادة تعريف العدو على أساس الهوية لا كفاعل سياسي يمكن الاختلاف أو الاتفاق معه، فصراع الهوية هو صراع وجود لا يقبل وجود هويات أخرى. وفي هذا المسار، تبدأ السردية في إفناء من هم خارجها، وتنتقل بعدها إلى أكل أبنائها وحرقهم في محرقة الجنون.

في هذا العالم المجنون، يصمت العقل، ويتراجع صوت المنطق، ويحل الصمت محل الكلام والحوار، والخوف محل الفعل. يقتنع الجميع بالنجاة الفردية، فتغيب مشاريع الإنقاذ، وينعدم التضامن، وتُفتح الأبواب والمنصات لأصوات الجنون، ويتم وأد أي إمكانية لبناء مشروع وطني.

تفكيك خطاب الهيمنة لا ينطلق من إنكار المعاناة، بل من كسر احتكار “الحق في الألم”، ورفض رسم خطوط الصراع على أسس دموية، وتفكيك البنية السلطوية للإقصاء، ورفض استخدامها كذريعة للعنف، وتحويل المظلوميات جميعها إلى نقطة انطلاق لبناء المشروع الوطني الجامع.

يجب إعادة الاعتبار للسرديات المتعددة للألم والمعاناة، وتحرير خطاب الضحايا من الهوية المغلقة، عبر مشروع وطني للحقيقة والمصالحة يقوم على كشف كل الحقائق ووضعها على الطاولة، حتى يعرف الجميع أنهم متساوون بالألم، وأن لا أحد يحتكر وجع التاريخ أو حق الحديث باسمه. هذا الكلام لن يهبط من السماء، ولن يتم تغيير الواقع بالأماني، وقطعاً ليس بالانسحاب وترك الساحات لعرّابي الهويات المتخيلة والنافخين في كير الثأر والأحقاد. المسؤولية الكبرى تقع على عاتق من اتخذوا الصمت ملاذاً والانكفاء غطاءً، ظناً أن موجة الإقصاء والنبذ والتسخيف لن تطالهم، فالصمت في هذه المواقف هو مشاركة ضمنية في بناء جدران وخنادق الكراهية.

الخروج من خطاب المظلومية المهيمن ليس طريقاً سهلاً؛ فهو يتطلب شجاعة لمواجهة الحقائق المؤلمة، وقوة لرفض الاستقطاب، وإرادة لفتح قنوات الحوار حيث سادت جدران الصمت. فالاستسلام لمنطق الهوية المغلق ونار الثأر هو طريق حتمي نحو المزيد من التفتت والدمار.

إن بناء وطن يتسع للجميع، وطن يعترف بآلام كل أبنائه دون احتكار أو مزايدة، ويبني مستقبله على أساس المواطنة والحق والعدل، هو مسؤولية تاريخية تقع على عاتق كل من يؤمن بالإنسان ويرفض أن يكون وقوداً في محرقة الهويات القاتلة. إنها دعوة لاستعادة العقل، وإعلاء صوت الحوار، والبناء على المشترك الإنساني في مواجهة الاستقطاب الهوياتي، والبدء بورشة عمل وطنية كبرى عنوانها #الحقيقة_والمصالحة من أجل مستقبل مشترك، مستقبل لا يُحتكر فيه الألم ولا تُصادر فيه الكلمة، بل يُبنى بتشارك الجميع ومن أجل الجميع.

مشاركة المقال: