جنى العيسى | حسن إبراهيم | عمر علاء الدين
لعقود، عمل النظام السوري على تقييد الحريات الصحفية، ما جعل سوريا في ذيل مؤشرات حرية الصحافة العالمية. بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، ظهرت ظاهرة تحكم "المكاتب الصحفية" و"مكتب العلاقات العامة" في وزارة الإعلام بتمرير المعلومات للصحفيين، مما أربك المشهد الإعلامي. يرى البعض أن هذا الإرباك مرتبط بإعادة ترتيب تجريها وزارة الإعلام والحكومة، لكن مخاوف الصحفيين لا تزال قائمة من عودة القبضة الحكومية على الصحافة.
خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، تعرض إعلاميون لانتهاكات متعددة، بما في ذلك اعتداءات من عناصر وفصائل عسكرية مختلفة. بعد ثلاثة أشهر من تعيين حكومة تصريف الأعمال، جرى تعيين حمزة المصطفى وزيرًا للإعلام، الذي وعد بالتغيير الإيجابي وتسهيل عمل الصحفيين. ورغم الوعود، لا تزال محاولات الصحفيين للحصول على المعلومات تواجه بالرفض أو التجاهل، بسبب حساسية الموضوع أو تداخلات بين وزارة الإعلام والوزارات الأخرى، وتشابكات في عمل المكاتب الصحفية.
تستعرض عنب بلدي في هذا الملف التحديات التي يواجهها الصحفيون في الوصول إلى المعلومات، والتعقيدات من قبل المكاتب الصحفية، وتستطلع آراء المسؤولين في الحكومة ووزارة الإعلام، وتبحث في دور اتحاد وروابط الصحفيين، وتقاطع الحالة مع الخبراء المختصين.
مسار مربك للوصول إلى المعلومة
يخشى بعض الصحفيين السوريين من تقييد حرية الوصول للمعلومات عبر المكاتب الصحفية التابعة للجهات العامة، إما بشكل متعمد أو نتيجة غياب التنسيق بين المكاتب الإعلامية ووزارة الإعلام. حاليًا، لدى كل وزارة أو مؤسسة حكومية مكتب صحفي أو مكتب علاقات عامة، يمكن التواصل معه هاتفيًا أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الآلية تسهل الحصول على معلومات محددة، لكنها تحرم الصحفيين من الوصول المباشر إلى المصادر المسؤولة، بينما ترفض بعض المكاتب التعاطي مع الصحفيين قبل الحصول على موافقة من وزارة الإعلام.
تضاربت آراء صحفيين عاملون في سوريا حول التعامل مع المكاتب الصحفية، فمنهم من يرى إحجامًا متعمدًا عن تقديم المعلومات، بينما يرى آخرون تعاونًا كبيرًا.
تعاطٍ غير واضح
واجه مراسل عنب بلدي في درعا صعوبات في تغطية آلية العمل في معبر "نصيب" الحدودي مع الأردن، وفشل في ثلاث محاولات للتصوير أو إجراء تغطية صحفية. في إحدى المحاولات، سُمح له بالدخول بشرط الحصول على موافقة رئيس دائرة الهجرة، الذي أحاله إلى مدير الجمارك، الذي رفض منحه أي تصريح. في محاولة أخرى، طُلب منه الحصول على موافقة من "هيئة المنافذ البرية والبحرية".
أشار المراسل إلى معوقات أخرى مرتبطة بالحصول على التصريحات الرسمية، إذ تنتظر بعض الموافقات أكثر من شهر دون رد. في المقابل، يوجد تعاون من قبل موظفين آخرين في البلديات، يستجيبون بسرعة لطلبات الصحفيين.
بيسان خلف، صحفية في مكتب عنب بلدي بدمشق، تعرضت لموقف مشابه، إذ رفض المكتب الصحفي في جامعة "دمشق" تزويدها بتواصل مع عميد كلية الأدب الإنجليزي. بينما كان المكتب الصحفي بوزارة الدفاع السورية متجاوبًا معها وحصلت على توضيحات مرتبطة بنفي خبر تعيين رياض الأسعد معاونًا لوزير الدفاع.
حق الصحفي.. لا علاقة للموظف
قال الصحفي أحمد حاج بكري إن الدولة في طور التأسيس، وهذا يولد عقبات تواجه الصحفيين في الحصول على المعلومة، منها تعقيدات وعدم معرفة بعض الكوادر بالمهام الموكلة إليهم. ولفت إلى الحاجة لإدراك المكتب أو مسؤول التواصل بأن ما يطلبه الصحفي هو حق، دون إقحام وجهة نظر الموظف. وأضاف أن غياب قوانين أو آلية واضحة للتواصل مع الجهات الحكومية من السلبيات أيضًا.
ويرى حاج بكري أن سقف الحرية في سوريا اليوم عالٍ جدًا، لكن ربما في بعض المواضيع التي لا تعجب السلطة لا يحصل فيها تعاون أو جواب واضح.
بيروقراطية يخترقها التعاون
يرى الأكاديمي والصحفي المستقل الدكتور أحمد الكناني أن ما كان قبل سقوط النظام ينطبق على ما بعده، من حيث انكفاء الجهات الحكومية عن تقديم المعلومات، خاصة البيانات الرقمية. ويواجه تقييدًا في الوصول إلى المعلومات، خاصة فيما يتعلق بملفات الطاقة والكهرباء والغاز، والتسريبات السياسية.
اعتبر الكناني أن العديد من المسؤولين السوريين لم يعودوا يهتمون لوسائل الإعلام المحلية، بل يلتفتون إلى وسائل الإعلام الدولية. تعتمد المكاتب الصحفية على بروتوكول بيروقراطي، يحكم علاقة المسؤول بالصحفي، عبر تقديم طلب للمكتب من أجل مقابلة مع الوزير.
اعتبر الصحفي أحمد الكناني أن المكاتب الصحفية في مختلف الوزارات لا تؤدي دورها بشكل فعال، مضيفًا أن العمل الصحفي يحتاج إلى سرعة المعلومة، بينما يبدو التوجه إلى باب المكاتب الصحفية هو "عكس خط السرعة". ولا يمكن المقارنة بين النظام السابق والإدارة السورية الجديدة، من حيث حرية طرح الملفات والأفكار والمواضيع.
اعتبر الكناني أن هناك تعاونًا من قبل المسؤولين في فكرة الانفتاح على الإعلام، إلا بما يتعلق بقضية حصرية التصريحات والإطلالات.
سلاح الإلحاح
ترى الصحفية منيرة بالوش أن تعاون المكاتب الصحفية مع الصحفيين جيد، مع وجود بعض التأخير في الرد. وتستطيع الحصول على المعلومات بسرعة، لكنها قد تكون محدودة في بعض الأحيان، بسبب أن الموظف المسؤول عن العلاقات العامة يكتفي باستقبال الأسئلة المرسلة بنفسه وتوجيهها للمصدر الرئيس، ما يفقد الصحفي فرصة طرح المزيد من الاستفسارات حول الموضوع. وبسبب الإلحاح الذي تتبعه، تستطيع الحصول على التصريح بوقت أسرع.
مرحلة مؤقتة
قال مراسل صحيفة "الشرق الأوسط" في دمشق كمال شيخو إن مسألة عدم توفر الصفحات الرسمية والبريد وأرقام التواصل للوصول للجهات الحكومية هي أبرز ما يعانيه. ويرتبط هذا الأمر بحداثة الإنشاء وتأسيس المكاتب الصحفية والوزرات. وخلال الفترة الأولى في أثناء حكم حكومة تصريف الأعمال، لم يكن هناك أي تعاون من قبل المكاتب الصحفية للحصول على إذن لإجراء مقابلة مع مسؤول أو وزير.
يعتقد شيخو أن هناك حاجة للوقت لإعطاء التوازن ما بين نشر المعلومة وتزويد الصحفيين بها، وأن تقييد الوصول للمعلومات قد يمتد من ثلاثة إلى ستة أشهر.
تحسن في التصنيف العالمي ارتفعت سوريا مرتبتين في حرية الصحافة، بعد أن كانت تحتل المرتبة 179 في عام 2024، لتحتل المرتبة 177، وفق "التصنيف العالمي لحرية الصحافة 2025". وبحسب "مراسلون بلا حدود"، فقد تراجعت الضغوط السياسية على الصحفيين في أعقاب سقوط النظام السوري، بينما لا تزال المؤسسات الإعلامية المحلية تعمل جاهدة على إحداث إطار مستدام للصحافة المستقلة.
ملفات "حساسة"
وزارة الإعلام توضح موقفها
قال مدير العلاقات الحكومية في وزارة الإعلام السورية، محمد عبد الرحمن، إن "الأصل في العمل الصحفي" أن تكون العلاقة بين الإعلاميين والمؤسسات الرسمية عبر وزارة الإعلام ممثلة بمديرية العلاقات العامة، والتي تُعد الجهة المسؤولة عن استقبال الطلبات الإعلامية وتنسيق الردود وترتيب المقابلات مع المعنيين. وأضاف أن هذا التنظيم يهدف إلى تسهيل عمل الصحفيين وتوحيد قنوات التواصل.
وبسبب الضغط المتزايد على المديرية، فتحت قنوات تواصل مباشرة بين بعض المكاتب الإعلامية والجهات الخدمية أو المدنية، لتسريع الإجراءات في الملفات الروتينية أو اليومية. أما في القضايا ذات الحساسية أو الارتباط بسياسات عامة، فيُعاد التنسيق إلى مديرية العلاقات العامة لضمان الدقة والتكامل.
اعتبر عبد الرحمن أن وجود بعض التباين بين المؤسسات الرسمية في التعامل مع الصحفيين أمر طبيعي، ويعود في الغالب إلى طبيعة عمل كل جهة ومستوى حساسية الملفات التي تتعامل معها. وعن غياب التجاوب الرسمي في بعض القضايا، قال إن الحكومة تنتهج سياسة إعلامية تهدف إلى حماية السلم الأهلي وتعزيز الاستقرار، ولذلك يراعى في بعض القضايا الحذر في التصريح بالمعلومات حفاظًا على المصلحة العامة.
قال عبد الرحمن إن العمل الإعلامي في سوريا لا يزال في طور الترتيب المؤسسي، لكن هناك جهودًا حثيثة تُبذل لتوسيع فرق الاستجابة الإعلامية، وتحسين سرعة التفاعل، وتطوير أدوات النشر والرد.
200 جهة بانتظار التراخيص
تنتظر وسائل إعلام ومؤسسات صحفية البت في طلبات قدمتها لترخيص العمل داخل سوريا. قال مدير العلاقات الحكومية في وزارة الإعلام إن دائرة التراخيص تلقت أكثر من 200 طلب من جهات مختلفة، وسيتم قريبًا إغلاق باب التقديم، تمهيدًا لتشكيل لجنة مختصة لدراسة الطلبات وفق معايير مهنية وإدارية.
"اتحاد الصحفيين"
خط ساخن لحل المشكلات
لم توجه إلى "اتحاد الصحفيين السوريين" شكاوى من الصحفيين تتعلق بعرقلة الوصول للمعلومات، بحسب ما قاله براء عثمان، عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الصحفيين السوريين. وأضاف أن "الاتحاد" تلقى عددًا من الشكاوى حول تأخر المكاتب الصحفية بالوزارات في الاستجابة لاستفسارات الصحفيين، وحين التواصل مع تلك المكاتب كان "الجواب المنطقي" هو "كثرة الطلبات الصحفية المتعلقة بالتصريحات المطلوبة من الوزراء".
ووصف براء عثمان عملية التنسيق بين اتحاد الصحفيين ووزارة الإعلام بـ"العالية جدًا"، مشيرًا إلى امتلاك الاتحاد خطًا ساخنًا مع وزارة الإعلام بكامل هيئاتها ومديرياتها.
حلقة الوصل
قال عثمان إن استجابة وزارة الإعلام كانت سريعة جدًا، خاصة مكتب العلاقات الإعلامية الذي انقسم إلى عدة مكاتب، حتى يسهل عملية الوصول إلى المعلومة وتسهيل حركة الإعلاميين. ولدى "اتحاد الصحفيين السوريين" منهجية لتسهيل وصول المعلومات للصحفيين، من خلال القنوات الساخنة التي افتتحها الاتحاد مع كل الوزارات والمؤسسات العامة وحتى النقابات في سوريا، ليكون اتحاد الصحفيين "حلقة وصل" في حال حدوث أي تأخر أو لبس أو مشكلة لدى الصحفي في الوصول إلى المعلومة أو إلى مصدر المعلومة.
وأضاف براء عثمان أن هناك إجراء نستطيع القول إننا أنجزنا من 60 إلى 70% منه، وهو إعداد قاعدة بيانات للصحفيين العاملين في سوريا، تمهيدًا لإطلاق البطاقة الصحفية الخاصة بالاتحاد التي سيكون لها دور كبير في تسهيل عمل الصحفيين على الأراضي السورية.
"الإعلام" و"المكاتب الصحفية"..
استقلالية واجبة تعزز المهنية
تداخل عمل المكاتب الصحفية في مختلف الوزارات والجهات العامة يفرض الحاجة إلى توضيح العلاقة بين هذه المكاتب ووزارة الإعلام. قالت رئيسة "رابطة الصحفيين السوريين"، مزن مرشد، إن العلاقة بين المكاتب الصحفية في الوزارات ووزارة الإعلام يجب أن تُبنى على قاعدة من التنسيق والتكامل لا التبعية، فالمكاتب الصحفية هي حلقة الوصل بين المؤسسات الرسمية والرأي العام، ويجب أن تتمتع بهامش كافٍ من الاستقلالية المهنية لتأدية دورها بفعالية وشفافية.
أما إدارة هذه المكاتب، فمن الأفضل أن تُدار من قبل الوزارات نفسها، لأنها الأدرى بتفاصيل عملها ومخرجاتها، على أن تُلزم بتقارير دورية أو تدريب مشترك مع وزارة الإعلام لضمان توحيد الخطاب المؤسسي العام. أما إدارة وزارة الإعلام المباشرة لجميع المكاتب فقد تؤدي إلى مركزية مفرطة تُضعف الاستجابة السريعة وتُهمّش خصوصية كل وزارة.
هيكلية تتحكم بالخطاب الإعلامي
قال الأستاذ المساعد في الإعلام بجامعة "بروكسل الحرة" (VUB) في بلجيكا، يزن بدران، إن التقاليد في هذا الملف تختلف بحسب البلدان، وفي معظم النماذج، تكون للوزارات والهيئات العامة مكاتبها الصحفية الخاصة. واعتبر بدران أن هناك ضبابية في المهام والمسؤوليات في النموذج السوري.
لا تستطيع وزارة الإعلام أن تكون مطلعة على تفاصيل عمل الوزارات والهيئات المختلفة في سوريا، وفق ما قاله يزن بدران، مضيفًا أن ما يجري حاليًا في سوريا أن هذه المكاتب موجودة للتحكم بالخطاب الإعلامي. ويرى بدران أن هذا جزء من ضبابية الهيكلية للحكومة السورية الجديدة، مؤكدًا أن المكتب الصحفي للوزارات هو المصدر الرئيس للمعلومة الرسمية، لكنه ليس الوحيد.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو حالة تهديد الصحفيين الذين لا يراجعون المكتب الصحفي في وزارة الإعلام، بحسب ما أشير لهم، لأنه بدوره لا يخدمهم ويقدم لهم ما يفيدهم، بعدم التعاون معهم في مرات لاحقة، وهو أمر خاطئ جدًا، لأن عمل المكتب الصحفي تسهيل عمل الصحفيين وليس إغلاق الطرق بوجوههم.
توصيات صحفية
في تقريرها الأول للحريات الصحفية في سوريا، طرحت "رابطة الصحفيين السوريين" عدة توصيات للحكومة السورية بما يتعلق بحرية العمل الصحفي في سوريا بعد سقوط النظام ومنها:
- إلغاء القوانين والتشريعات التي شرعنت القمع الإعلامي.
- مراجعة شاملة للقوانين المتعلقة بحرية الصحافة والتعبير والحق في الحصول على المعلومات.
- الإفراج الفوري عن جميع الصحفيين المعتقلين، والكشف عن مصير الصحفيين المختفين قسرًا.
- إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية والأجسام النقابية الصحفية التي كانت تحت سيطرة النظام السابق.
- وضع آليات رقابة فعّالة لمنع استخدام الإعلام كأداة للقمع أو التضليل.
- إطلاق برامج تدريبية متخصصة حول آليات التوثيق وحقوق الصحفيين.
- تعزيز ثقافة المساءلة من خلال الإعلام المستقل والمراقب.