علي البكيع – دير الزور
بينما يحاول سكان مدن وبلدات ريف دير الزور الشرقي في شرق سوريا استئناف حياتهم على أنقاض الماضي القريب، يواجهون واقعاً يتجاوز مجرد آثار الحرب. فبعد سنوات من سيطرة الفصائل الإيرانية، يكتشف العائدون منازلهم وقد تحولت إلى شبكات أنفاق معقدة، ومناطق سكنية كانت نابضة بالحياة أصبحت "أوكاراً" مخفية، بالإضافة إلى الدمار الهائل والسرقات التي طالت كل شيء، وفقاً لشهادات السكان المحليين.
أنفاق ومغارات تحت المنازل
يقول عمر عبد العزيز العران، من سكان مدينة البو كمال بريف دير الزور الشرقي، لنورث برس، إن "هذه المناطق كانت مقرات إيرانية، ولم نستطع العودة إليها إلا بعد سقوط النظام وطرد الفصائل الإيرانية منها" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ويضيف أن "المنطقة كانت مغلقة ومنطقة عسكرية"، ويصف المعاناة التي واجهها هو وجيرانه قائلاً: "عدنا ووجدنا المنازل مدمرة ومسروقة بشكل كامل، والطرقات مغلقة"، مشيراً إلى أنهم بالتعاون مع قيادة المنطقة، فتحوا الطرقات تدريجياً، وبدأت الحياة تعود إلى مدينة البوكمال.
ويشير إلى أن العودة لم تكن سهلة، فالبنى التحتية دمرت بشكل شبه كامل، قائلاً: "لدينا خدمات المياه والكهرباء مدمرة بشكل كامل بسبب ضربات طيران التحالف عندما كان يقصف الممرات الإيرانية في المنطقة 47." ويبين أن المنطقة التي كانت تحت سيطرة الفصائل الإيرانية "فيها أنفاق في كل بيت، يعني تقريباً بنفق أو نفقين، أنفاق تحت البيوت كاملة". ويكشف العرّان عن صدمة العائدين: "بعد التحرير، عدنا إلى منازلنا، ولكن تفاجأنا عندما وجدناها عبارة عن مغارات وسلسلة من الأنفاق".
في عام 2017، دخلت إيران إلى الضفة الغربية من نهر الفرات في دير الزور، لمساندة القوات الحكومية في قتال تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، حيث كانت تسيطر على كافة المناطق الممتدة من مدينة دير الزور وصولاً لبلدة البوكمال الحدودية مع العراق، إضافة إلى سبع بلدات شرق نهر الفرات.
"ممنوع الاقتراب والعودة"
في قرية الغبرة بريف دير الزور، تتفاقم الصورة، حيث يروي أحمد الجلود الحمدي من سكان القرية، لنورث برس، تجربة مريرة مع "المغارات الإيرانية"، قائلاً: "كلما حاولنا العودة إلى منازلنا، يطلقون فوقنا الرصاص ويقولون: ممنوع الاقتراب". ويضيف "الحمدي" أنهم كانوا لا يسمحون لأحد بالاقتراب أو العودة، وجعلوا من منازلهم مقرات لهم ولم يكتفوا بذلك، "بل سرقوا المنازل ولم يتركوا باباً أو نافذة"، على حد قوله. ويشير إلى أنهم "حولوا المسجد إلى حسينية ودمروا المدارس".
وضمن مشروعها لنشر المذهب الشيعي، كانت إيران تستقطب رجالات الدين ورموز العشائر وتغريهم مادياً لحث السكان على التشيّع، إضافة لبناء الحسينيات، وإدراج مناهج دراسية ذات طابع شيعي بين مناهج الطلاب، وبذلك تعمل على استقطاب عقول الأطفال لبناء جيل متشيّع. ويعتبر نواف راغب البشير شيخ عشيرة البكارة، وفرحان محمد حمد المرسومي شيخ عشيرة المراسمة، من المتشيعين الذين كان لهم دور كبير في تشيع المنطقة كونهم شيوخ عشائر كبيرة في المنطقة، إضافة إلى أن نسب تلك العشائر يعود إلى "أهل البيت".
ويبين "الحمدي" أن محاولات السكان للمطالبة بحقوقهم باءت بالفشل، مضيفاً: "ذهبنا لنطالب بمنازلنا ولكن لم يستمع إلينا أحد". فيما يقول كمال عبد القادر الإبراهيم (63 عاماً)، من سكان دير الزور، لنورث برس: "رجعنا لبيوتنا بعد سقوط النظام فوجدناها محفورة بأنفاق، حولوها أوكاراً للإيرانيين".
إعدامات ميدانية وألغام
يكشف "الإبراهيم" عن ممارسات خطيرة قامت بها الفصائل الإيرانية في تلك المنطقة، قائلاً إنهم كانوا يخرجون إلى البرية، يتنكرون على أنهم دواعش ويقتلون رعاة الغنم ويسلبون الأغنام من أصحابها". ومطلع عام 2020، أقدمت فصائل تابعة لإيران على تصفية وإعدام جماعي ورمياً بالرصاص لسبعة رعاة للأغنام في قرية عياش بريف دير الزور الغربي، واستولت على الأغنام بعد إلصاق التهمة بتنظيم "داعش" المنتشر في أكثر من منطقة على الحدود السورية العراقية.
ويضيف أنه لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالميليشيات الإيرانية "زرعت البرية بالألغام، وعلى جانبي الطريق من البوكمال إلى لبنان، من يقترب من الطريق على بعد خمسة عشر كيلومتراً يقتلونه أو ينفجر فيه لغم أرضي". ويعبر الإبراهيم عن حزنه لفقدانهم القدرة على الوصول إلى أراضيهم التقليدية: "نحن نعرف البرية خطوة بخطوة، الآن لم نعد نقدر أن نصل البرية، كلها ألغام إيرانية.
اليوم، يقف سكان البوكمال والغبرة ودير الزور أمام تحدٍّ يتجاوز إعادة البناء، ولم تنته معاناتهم بانسحاب الميليشيات أو بانتهاء العمليات العسكرية، فالأضرار امتدت إلى تفاصيل الحياة اليومية وذاكرة المكان، فعودة السكان إلى منازلهم لم تكن بداية جديدة بقدر ما كانت صدمة مواجهة مع واقع مشوَّه، مليء بالأنفاق، والركام، والذكريات المنهوبة.
تحرير: خلف معو