شهدت “سوريا” خلال الأشهر الماضية جملةً من الأحداث والتوترات الدامية ارتبطت بشكل مباشر بما ينشر عبر وسائل التواصل وما يبث عبر وسائل الإعلام، حيث شاع خطاب كراهية وحديث طائفي سواءً في تعليقات مسنخدمي وسائل التواصل أو في محتوى وسائل الإعلام.
أجرى سناك سوري تتبعاً لمحتوى 9 وسائل إعلامية محلية وعربية ونحو 100 منشور وتعليق عبر فايسبوك في الفترة ما بين 7 آذار وحتى 12 نيسان، شملت 100 منشور على صفحات ناشطين/ات ونحو 1000 تعليق على هذه المنشورات،تضمنت مجموعة من الكلمات المفتاحية مثل “علويين، الساحل السوري، السنة، بنو أمية، التقسيم، استقلال الساحل، إبادة العلويين، قاعدة حميميم، حماية دولية، حماية الأقليات، فلول النظام، جهاد النكاح، سبايا العطاء، الدروز، درعا، اللاذقية، طرطوس، بانياس، حمص، حماة، السويداء، الأكراد، قسد، إرهابي، عملاء، تمرد مسلح، نفير عام”. وتتبّع الرصد خلال تلك الفترة محتوى وسائل إعلام رسمية، وخاصة، ومستولى عليها، بالإضافة للصفحات الرسمية للمحافظات. وتم الأخذ بعين الاعتبار التمييز بين خطاب الكراهية وبين حرية الرأي والتعبير وفقاً لمعايير الستة وهي: “السياق الاجتماعي والسياسي، حالة المتحدث، النية لتحريض الجمهور ضد مجموعة مستهدفة، المحتوى وشكل الخطاب، مدى نشر الخطاب، أرجحية الضرر”.
مع اندلاع أحداث الساحل مطلع آذار الماضي اشتعل خطاب الكراهية بوضوح عبر وسائل التواصل مترافقاً مع تراشق للاتهامات بين من يتهم طائفةً كاملةً بالمسؤولية عن هجمات “فلول النظام” على قوات الأمن العام، ومن يردّ باتهام طائفة كاملة بالمسؤولية عن انتهاكات الفصائل وارتكابها لمجازر على أساس طائفي.
وبالتوازي مع تراشق الاتهامات الطائفية، يحضر باستمرار خطاب الكراهية ضد السوريين الكرد من خلال عبارات تصف “قسد” بأنها “ميليشيا” وعملاء وانفصاليين، وتحقير المواطنين الكرد باستخدام كلمة “بويجية” للتقليل من قيمتهم، وهو خطاب عنصري مباشر يستهدف مواطنين سوريين على أساس عرقي.
وظهرت خلال الفترة من 8 إلى 30 آذار جملة كلمات متداولة تنوّعت استهدافاتها بحسب الطوائف والمكوّنات لكنها بالمجمل تندرج تحت عنوان خطاب الكراهية. تظهر الكثير من التعليقات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تم رصدها حالة من التعبئة الطائفية والعرقية بين مكونات الشعب السوري. حيث تعكس النسبة الأكبر من مفردات الكراهية المتداولة خطاباً يشمل دعوات للقتل والإقصاء والانفصال والتمييز والانحياز، بالإضافة إلى عبارات تحريضية تصف الآخرين بالعمالة، وأخرى استهزاءات وتشبيهات بالخنازير والكلاب كأسلوب يستخدم لإلغاء صفة الإنسانية عن المستهدف.
يضاف إلى ذلك، استخدام أسلوب التعميم المفرط القائم على تحويل حادثة أو فعل قام به شخص أو مجموعة من الأشخاص إلى تهمة تتحمّل مسؤوليتها طائفة المرتكِب كاملةً، والعمل على شيطنة هذه الطائفة واعتبارها تهديداً لبقية الطوائف والمكونات. وبطبيعة الحال كان المدنيون في معظم الحالات الضحية الرئيسية لخطاب الكراهية والتحريض على العنف، واستخدام عبارات مباشرة تدعو لإبادة طائفة بأسرها، والدعوة لإقصاء وتهميش مكوّنات سورية كاملة.
في الأثناء انتشرت عشرات المقاطع المصورة لفصائل مسلحة ترتكب جرائم قتل ومجازر على أساس طائفي، ويتلفّظ عناصرها بعبارات طائفية وجمل تعبّر عن فخرهم بهذه الارتكابات. إحدى هذه المقاطع ما صوّره عنصر أجنبي يدعى “أبو أحمد الجزائري” في 9 آذار الماضي يهدّد الطوائف السورية ويقول «لا أخوة في الوطن والمسألة مسألة عقيدة الولاء والبراء». لم يقف عند التحريض وإنما، استكمل في دعوات علنية نحو الإبادة كخطاب يرقى إلى “جريمة كراهية”، حيث دعا إلى اختيار هدف الجريمة على أساس ديني وطائفي بدافع التحيز والتطرف، وذلك في قوله: «ما دمتم يا نصارى ترفعون الصليب والنصيرية والأقليات تقومون بفوضى في سوريا سنجاهد فيكم ولن نترككم».
حتى بعض الحملات التطوعية لم تسلم من خطاب الكراهية، كفريق “عبق” التطوعي الذي خرج أعضاؤه خلال شهر رمضان الفضيل وهم يوزعون وجبات الإفطار بريف “حلب” مغلفة بعبارات طائفية ساخرة تدعو للإبادة. في حين، وعدت السلطات السورية باتخاذ الإجراءات القانونية بحق الفريق الذي اعتذر بعد ذلك عن العبارات المكتوبة، فيما ظهر أعضاؤه لاحقاً وقد تم الإفراج عنهم سريعاً دون الإعلان عن اتخاذ أي إجراء أو محاكمة بحقهم.
كما أظهرت العديد من الصور عمليات ممنهجة لتخريب مقامات دينية تحت بند الكراهية وبخطاب عالٍ يصل أيضاً إلى جريمة الكراهية مثل عبارة “بالذبح جئناكم” والتي كتبت على جدار مقام الشيخ “حسن العجمي” في بارمايا. بالإضافة إلى منشورات مجموعة تسمي نفسها “سرايا أنصار السنة” التي تبنّت خطاب كراهية مباشر ضد الطائفة العلوية، وتحميل أبنائها مسؤولية ارتكابات نظام “الأسد”، ورفضها ما سمّته “التسامح المبالغ فيه مع النصيرية”، وإعلانها الواضح أنها ستنفّذ جرائم اغتيال بحق السوريين تبعاً لانتمائهم الطائفي لا أكثر، وقد أعلنت المجموعة مسؤوليتها عن عدد من جرائم الاغتيال دون أن يتم التعرّف إلى أعضائها أو القبض على أحدهم حيث لا تزال معظم جرائم القتل تلك مقيّدة ضد مجهول.
لعب “المؤثرون” عبر وسائل التواصل الاجتماعي دوراً رئيسياً في نشر خطاب الكراهية من باب “الشعبوية” وحصد المزيد من المتابعات والتفاعلات باستخدام الخطاب الرائج في فترات تصاعد التوترات الطائفية. فالتيكتوكر السورية “أسيل الكاشف” وصل بها خطاب الكراهية إلى الدعوة لرمي جثث من قضى في أحداث الساحل دون أدنى تمييز بين أبرياء ونساء وأطفال وبين المطلوبين المجرمين، داعية في أحد الفيديوهات إلى عدم تصوير جرائم القتل بحقهم، وألا يبق منهم أحد. في حين دعت زميلتها “قمر” إلى “رمي جثثهم على الجبال..” بخطاب يدعو للعنف والكراهية ويحرّض على مزيد من الفتن الطائفية وتراكم الأحقاد بين السوريين. بالإضافة إلى التي خرجت عبر فيديو ثم حذفته، تطالب فيه “بهدم الجبال على العلويين”. بالمقابل خرجت الممثلة السورية وهي تشتم الطائفة السنية بألفاظ كراهية عنصرية لتعود وتعتذر في فيديو لاحق.
على الرغم من افتراض أن وسائل الإعلام محكومة بمعايير مهنية وأخلاقية تحول دون استخدام خطاب الكراهية في محتواها، إلا أن فترة التوترات الطائفية أوقعت تلك الوسائل بفخ استعمال خطاب الكراهية فيما تبثّه من محتوى. في المرتبة الأولى، سجّل تلفزبون محلي كان من بين ما رصدناهم 5 منشورات تحمل خطاب كراهية، ففي تاريخ 10 آذار نشر فيديو لمشاهد جوية تظهر وجود مدنيين وعسكريين في قاعدة حميميم الروسية في “اللاذقية”، مرفقاً بعبارة « روسيا تجهّز لنقل فلول النظام المخلوع في قاعدة حميميم إلى دول أخرى»، في إشارة إلى أن كل من تواجدوا داخل القاعدة الروسية من مدنيين هربوا من المجازر الطائفية التي ارتكبتها الفصائل في الساحل السوري، هم من فلول النظام بشكل يزيد من التحريض والحضّ على الكراهية ضد الأبرياء، الأمر الذي ظهر جلياً في التعليقات على المقطع. وفي 16 آذار نشرت صفحة التلفزيون ذاته تقريراً مصوراً عن حالة السوريين في القاعدة الروسية، باستخدام عبارات تحمل الكثير من الازدراء والشماتة مثل «ما اتحمموا من 10 أيام .. والأمراض تنتشر بين اللاجئين». اللافت أنه لم نشاهد لقاءات وشواهد أهلية لهذه المعلومات التي تم وصفها ﺑ “الحصرية”. بتاريخ 8 نيسان وصف التفزيون ذاته خروج العوائل السورية من قاعدة حميميم بالطرد، كأسلوب هجومي تحريضي. وفي السياق لم يتطرق التلفزيون بشكل حقيقي إلى الضحايا المدنيين كما حصل في “حرف بنمرة” كأسلوب انحيازي.
كما أظهر تشخيص خطاب الكراهية لدى تناوله التقارير عن “قسد” على أنها تارة “تعمل على مواجهة حكومة دمشق” وأخرى ” قسد تلعب على الحواف… ترواغ للنفوذ.. مصالحها تتقاطع مع الجنوب وتنسيق متنامي مع السويداء” على أنها تقف في “مواجهة حكومة دمشق”، الأمر الذي ساهم في تعزيز خطاب الكراهية تجاه المكون الكردي السوري. بموازاة ذلك، سجلت “الجزيرة/ سوريا” خطاب تحريض وكراهية حينما سارت على خطا تلفزيون “سوريا” ووصفت السوريين الذين التجأوا إلى قاعدة “حميميم” هرباً من المجازر بأنهم “فلول النظام” بالجملة، دون أي اعتبارات لسياق توجههم للقاعدة الروسية وأنهم كانوا آمنين في منازلهم حتى بعد سقوط النظام ولم يهربوا إلى أي مكان إلا بعد أن بدأت المجازر الطائفية وعجزت الدولة السورية عن حمايتهم ووقف المجازر بحقهم. وعادت بتاريخ 12 آذار لتعترف بوجود مدنيين فروا من المعارك في نقلها لخبرٍ عن إجلاء الهلال الأحمر السوري لمصابين من قاعدة “حميميم” التي وصفتها بأنها استخدمت كملجأ لنازحين فرّوا من المعارك التي جرت إثر هجمات فلول النظام، والمعنى هنا يختلف تماماً عن منشوراتها السابقة، إذ لا ذنب للمدنيين باندلاع المعارك ولا هم مسؤولون عمّا ارتكبه “فلول النظام”.
ولم تسلم إذاعة “شام إف إم” من الوقوع في فخ خطاب الكراهية، فبعد انتشار مقطع فيديو للناشطة “غادة الشعراني” تواجه خلاله محافظ “السويداء” “مصطفى البكور” بعد تعرّض ناشطين من “السويداء” للاعتقال والتعذيب في سجن “حارم” بريف “إدلب”، ردّت الإذاعة بمقطع هاجمت فيه “الشعراني” بشدّة وصلت إلى حدّ الشتم والانحياز الذكوري ضدها باستخدام عبارات مثل “امرأة تدعي الجرأة وتخلطها بالوقاحة، صوت مرتفع، ألفاظ ساقطة بلا حياء، وأفواه تعودت للخنوع السفاهة”. في المقابل، وقعت “الشعراني” في خطاب كراهية وتعميم حين وصفت عناصر الحاجز الذين قاموا باعتقال الناشطين بأنهم “هم الخنازير والمجوس وليس العلويين والدروز”.
رصد التقرير استهداف نساء سوريات باتهامات غير أخلاقية ولا تستند إلى دليل لكنها تهدف إلى الحطّ من قيمة وسمعة النساء مثل الحديث عن تعرّض السوريات للاغتصاب في قاعدة “حميميم” بهدف تشويه سمعتهنّ ووصمهنّ بصفات غير أخلاقية. في المقابل كانت عبارات مثل “نساء جهاد النكاح” أو “صبايا العطاء” تستخدم في سياق إهانة النساء تبعاً لانتمائهن طائفياً، عبر الإساءة إليهنّ أخلاقياً والطعن في سمعتهنّ ما يهدّد سلامتهنّ النفسية وحتى الجسدية، حيث يتم إطلاق “صبايا/سبايا العطاء” كمصطلح لشتم النساء والطعن في أخلاقهن، ربطاً بأن اسم “صبايا العطاء” يعود لجمعية خيرية كانت تعمل في عهد النظام السابق. ويندرج “الانحياز والتمييز” أيضاً ضمن معايير خطاب الكراهية، الأمر الذي كان يتجلّى بوضوح مع كل حادثة أو جريمة ترتكب بحق شخص أو جماعة، فيكون الرد بدلاً من إدانة الجريمة، استحضار حوادث وجرائم سابقة واتهام كل من يدين الجريمة الجديدة بأنه لم يقم بإدانة الجرائم السابقة، وبهذا اشتهرت عبارة “وين كنتو لما..” على افتراض أن إدانة الجرم الحالي يحتاج إلى إثبات إدانة سابق، علماً أن ناشطين حقوقيين ومعتقلين سابقين اشتهروا بإداناتهم للجرائم والانتهاكات طوال تاريخهم كانوا يتعرضون لهجوم شرس عبر وسائل التواصل عند إدانتهم للجرائم الحالية.
لعب غياب الإعلام الرسمي عن تقديم رواية حقيقية لما يحدث دوراً في شيوع الروايات المتضاربة والشائعات والسرديات الطائفية التي انتشرت عبر وسائل التواصل والأقنية غير الرسمية ما عزّز من خطاب الكراهية والتحريض. رصد سناك سوري محتوى وكالة سانا الرسمية وصفحات محافظات طرطوس، اللاذقية، حماة، حمص، دير الزور، حيث بلغ عدد الأخبار المحلية المرصودة لوكالة سانا 326 خبراً، منها 28 خبراً فقط تناول أخبار الساحل من ناحية الدفاع وأخبار لجنة تقصي الحقائق والاستجابات الإنسانية والحكومية، أي ما نسبته 8.5% دون توضيح وكشف ملابسات المجازر المرتكبة. ولم نرصد أي خبر عن أعداد الضحايا المدنيين ولا الوقفات الشعبية حداداً على أرواحهم، إضافة إلى تجاهل خبر وقوع مجازر بحق مدنيين في بريف “حلب” الشمالي إثر غارة تركية يومي 10 و17 آذار، وأخبار هجمات “داعش” على “دير الزور” و”الحسكة”. أما صفحات المحافظات المرصودة على موقع الفيس بوك، فلم تتناول خلال فترة الرصد الكثير من الانتهاكات التي وقعت، وأعادت نشر السردية الحكومية للأحداث دون الأخذ بعين الاعتبار صوت المواطنين وأبناء المحافظات في التعبير عمّا حدث ما زاد من معدلات انتشار المعلومات المضللة التي تحوّلت لنقطة ارتكاز لخطاب الكراهية.
ويظهر الرصد عدد الأخبار الكلية المنشورة خلال الفترة المدروسة، ما مجموعه 1573خبراً، حيث احتلت محافظة حماة المرتبة الأولى بعدد الأخبار المنشورة 554 خبراً، ثم اللاذقية بعدد 364 خبراً، طرطوس بعدد 299 خبراً، دير الزور 218 خبراً، حمص بعدد 138 خبراً. يظهر الجدول خللاً في تقصي الحقائق من أرض الواقع ونقل نصف الحقيقة على حساب أخبار لأعمال حكومية وتحركات المحافظ، وأخرى تظهر دعماً للأمن العام واحتفالات ووقفات تضامنية وترحيبية بالقوى الأمنية. مقابل تغييب حقيقة ما جرى من انتهاكات ومجازر بحق المدنيين في تلك المحافظات، مما ساهم في تنامي خطاب الكراهية. وللمفارقة أن إدارة إعلام المحافظات السورية نشرت مقطعاً تعريفياً مصوراً مطلع العام الجاري تعبر فيه عن سعيها لتقديم المعلومة بشكل مباشر لحظة وقوعها، وتحرص على تقديم المعلومات وتوثيقها بشكل يعكس الواقع، لكن هذا المسعى لم يظهر في أول اختبار عند وقوع أحداث مفصلية في المحافظات المذكورة.
قد يبدو لبعض ناشطي السوشال ميديا وبعض مديري الصفحات وحتى وسائل الإعلام، أن فترات التوتر الطائفي مثالية لحصد جماهير إضافية باستخدام الخطاب الشعبوي المتناغم مع “غضب” فئة معينة على حساب فئة أخرى، من خلال استخدام خطاب الكراهية والدعوة إلى العنف والنفَس الطائفي في تقديم المحتوى. إلا أن هذه اللعبة الخطرة التي قد تجمع المزيد من الجماهير وتزيد من تعصّب المتابعين وتمسّكهم بالصفحات والقنوات التي تردّد آراءهم وتدعم سردياتهم وتسمعهم ما يحلو لهم من خطاب “نحن” أصحاب الحق وكل “الآخر” أصحاب الباطل الذين تجب إبادتهم وإلغاء وجودهم وهم سبب كل مصيبة وهم الخطأ المطلق دائماً، لكن هذا الخطاب لا يقف عند حدود فايسبوك أو شاشة تلفاز إنما تتم ترجمته إلى جرائم ومجازر وأعمال عنف تودي بحياة أشخاص حقيقين وتزهق أرواح أبرياء، ما يظهر خطورة خطاب الكراهية كأداة قتل وإجرام لا تعتبر محاربتها رفاهية فكرية ولا تنظيراً عن بعد، بل ضرورة لحماية أرواح السوريين ولحماية البلاد من الانقسام وإشعال فتن ونزاعات أهلية.