الخميس, 6 نوفمبر 2025 06:31 AM

جدل حول حادثة الشيخ الشعّال: هل يكفي الاعتذار لترميم الشرخ في المجتمع السوري؟

جدل حول حادثة الشيخ الشعّال: هل يكفي الاعتذار لترميم الشرخ في المجتمع السوري؟

أثار طرد الشيخ محمد خير الشعّال من مسجدين في ريف دمشق مؤخرًا جدلاً واسعًا في الأوساط السورية، ليصبح اسمه من بين أبرز المواضيع المتداولة. هذا التفاعل الحاد لم يكن بسبب الحادثة نفسها، بل لأن الشيخ الشعّال شخصية دينية بارزة، خاصة بين المقيمين في مناطق سيطرة النظام السابق. في المقابل، ارتبط اسمه لدى شريحة واسعة من السوريين، خاصة المحسوبين على الثورة، بمواقف موالية لنظام الأسد خلال العقد الأخير.

قدّم الشيخ الشعّال خطابه الديني من دمشق في أوج عنف النظام، متضمنًا الترحم على جنود النظام السابق رغم المجازر التي ارتكبوها، إضافة إلى محاباة رموز النظام المعروفين بالفساد. رأى معارضوه أن ما حدث معه طبيعي لتبريره عنف النظام وتغطيته على جرائمه، وعدم انحيازه لمظلومية السوريين. ويرى هذا التيار الواسع أنه لا يمكن فصل خطاب الشيخ عن النتائج الكارثية التي خلفتها آلة قتل النظام البائد.

رغم توضيحه اللاحق بأنه كان مكرهًا بفعل القبضة الأمنية للنظام السابق، لم يقنع هذا التفسير الكثيرين، خاصة مع مرور أكثر من عشرة أشهر على سقوط النظام، ما جعل الاعتذار يبدو متأخرًا ومرتبطًا بالضغط الشعبي أكثر منه بمراجعة المبادئ والمواقف.

بعيدًا عن الخلفية التقليدية المحافظة لخطاب الشيخ الديني، يرى الكثيرون أن الخلاف معه ليس فكريًا فحسب، بل أخلاقي أيضًا. فبعد سقوط النظام، ارتفع صوت الشيخ، مخاطبًا الجمهور كما لو كان صوتًا من أصوات الثورة، متجاهلًا مواقفه السابقة المؤيدة للنظام ورموزه رغم المجازر. هذا التبدل المفاجئ بدا للكثيرين نوعًا من ركوب الموجة، وقد يكون الشيخ اتخذ تلك المواقف مكرهًا، لكن علاقته بجزء واسع من الناس أصبحت محكومة بالذاكرة، ذاكرة الدم، وذاكرة الموقف، وذاكرة الصمت.

زاد التوتر بعد هجومه على منتقديه، واصفًا إياهم بأنهم ليسوا من الأدب والأخلاق، ما عزز الشعور بالاستعلاء والاستخفاف بآلام الناس. لا يمكن فهم ما جرى دون إدراك حجم الشرخ بين السوريين الذي حدث في سنوات الثورة، بين من عاشوا في مناطق النظام تحت القمع والخوف، وبين من كانوا في مناطق الثورة أو خارج سوريا ونجوا من القصف أو الاعتقال أو التهجير.

خلق هذا الواقع تباينًا في اللغة والذاكرة والخبرة والسردية. من بقي داخل مناطق النظام السابق رأى في الشعّال وجهًا مألوفًا، بينما رآه من كان في الخارج أو في مناطق الثورة صوتًا منحازًا للقاتل ضد الضحايا. انقسم الشارع بين فريق يرفضه بسبب موقفه السابق، وفريق يدافع عنه لتمثيله مرجعية دينية أو لشعورهم بتعالٍ من "البيئة الثورية" على من بقي في الداخل. كلا الشعورين قابل للفهم في سياق اجتماعي مكلوم.

كان من المتوقع أن يكون موقف الشعّال أكثر نضجًا، وأن يسعى لتهدئة النفوس بدلًا من إطلاق أحكام قاسية تزيد الشرخ. حاول البعض تفسير ما حدث بأنه صراع بين السلفية والصوفية، لكن هذا التفسير تبسيطي ومضلل. فقد خرج مشايخ كثر من التيار الصوفي ضد نظام الأسد، وساند بعض أعلامه الثورة، ودفعوا أثمانًا باهظة. المفارقة أن بعض هؤلاء عادوا إلى دمشق وتولوا مواقع دينية دون الضجة التي أثيرت حول الشيخ الشعّال، ما يدل على أن الانتماء المذهبي لم يكن أساس الخلاف، بل الموقف الأخلاقي الغائب أو المتأخر.

ما جرى مع الشيخ الشعّال يكشف حجم الجرح الذي لم يُضمد بعد. فالشرخ الاجتماعي لا يزال موجودًا، والذاكرة لا تزال دامية. فكرة العفو دون اعتذار صادق ومراجعة نقدية شجاعة مرفوضة مجتمعيًا، لأنها تراكم الألم. الاعتذار ليس مجرد كلمة، بل جهد أخلاقي في استعادة الثقة.

قد يكون الشيخ الشعّال صادقًا في قوله إنه أُكره على مواقفه السابقة، لكن هذا الادعاء لا يكفي لوحده لمنحه البراءة. فالمصداقية تُبنى عبر اعتذار شجاع وصريح، لا عبر مراوغة أو تحت ضغط، عبر لغة تُطمئن القلوب وتحترم ألم المجتمع.

الدور المطلوب من رجال الدين اليوم يتجاوز رواية القصص الدينية والخطاب الوعظي التقليدي. المجتمع السوري بحاجة إلى بناء أرضية جديدة للأخلاق العامة تتجاوز الانغلاق والقشور. فالدين، قبل أن يكون نصًا، هو سلوك ومكارم أخلاق وشعور صادق بجراح الناس. المجتمع السوري أحوج ما يكون إلى من يردم الهوة بين أفراده، لا إلى من يكرّسها، يحتاج إلى من يمدّ اليد إلى المختلف، وإلى من يبني سردية مشتركة لا تنكر الماضي، بل تواجهه بشجاعة ومسؤولية. الشيخ الشعّال، أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل العلاقة مع الجمهور عبر الاعتراف بالخطأ، والتواضع أمام ألم المجتمع، والانخراط في خطاب يجمع ولا يفرّق.

مشاركة المقال: