الإثنين, 27 أكتوبر 2025 08:08 PM

هجرة الأدمغة السورية: خسارة الوطن أم فرصة للجيل الجديد؟

هجرة الأدمغة السورية: خسارة الوطن أم فرصة للجيل الجديد؟

د. سلمان ريا: لا أحد يلومهم، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يتبقى من وطن عندما يغادره نخبة أبنائه؟ شهدت السنوات الأخيرة هجرة واسعة للكفاءات السورية من الجامعات والمشافي ومكاتب التصميم والمختبرات. يرحلون بصمت، وكأن الرحيل أصبح جزءًا من الروتين، لا يحتاج إلى مبررات.

الطبيب الذي كان يحلم بإعادة بناء مشفى مدينته، وجد نفسه في برلين، والمهندس الذي تمنى بناء منزل في قريته، يعمل الآن على تشييد الجسور في هامبورغ. ما نشهده اليوم ليس مجرد هجرة أفراد يبحثون عن حياة أفضل، بل هو تحول جذري في الوعي والإنتاج.

وراء المنح الأوروبية وبرامج التوظيف الدولية، تكمن سياسة استقطاب ناعمة تعمل على إعادة توزيع الكفاءات من المناطق المنهكة إلى المراكز الغنية. لا يتم ذلك بالإجبار، بل من خلال تقديم مغريات مشروعة: مختبرات حديثة، ورواتب مجزية، وتقدير مهني. وهكذا، يتحول النزيف البشري إلى عملية منظمة تتم تحت شعار "الفرص الأفضل"، بينما تخسر الدول النامية أثمن ما تملك دون أن تتعرض لإطلاق نار واحد.

لكن جوهر المشكلة يكمن في الداخل، الذي جعل الرحيل حلمًا والبقاء عبئًا. عندما يعمل الطبيب في ظروف قاسية، والمهندس بدون مشاريع، والأستاذ الجامعي بدون مستقبل مهني، فإن الوطن نفسه يدفع أبناءه بلطف نحو الهجرة. نحن لا نخسرهم لأن أحدًا سرقهم، بل لأننا لم نعرف كيف نحافظ عليهم.

هذه الهجرة، في جوهرها، ليست استسلامًا فرديًا، بل اعتراف جماعي بفشل السياسات الوطنية في بناء بيئة تحترم الكفاءة وتمنحها قيمة. بهذا المعنى، لا يجب أن نفهم الهجرة على أنها مجرد بحث عن الرفاهية، بل كنتيجة لمنظومتين متداخلتين: إحداهما داخلية تستنزف الطاقات دون مقابل، والأخرى عالمية تعيد إنتاج التفاوت بين من يصنع المعرفة ومن يهاجر إليها.

مواجهة هذا النزيف لا تكون بالشعارات أو المنع، بل بإصلاح شامل لبيئة العمل والتعليم. يجب توفير حوافز تحافظ على كرامة المهنة، وبرامج تمكن الشباب من العمل داخل البلاد، وشراكات تربط المغتربين بوطنهم دون اشتراط العودة الدائمة.

يمكن تحقيق ذلك من خلال منصة وطنية تتيح للخبراء السوريين في الخارج المساهمة بخبراتهم في المشاريع المحلية، أو من خلال برامج عودة قصيرة لتبادل المعرفة، أو تعاون بحثي مستمر بين الجامعات السورية ونظيراتها في الخارج. الأهم هو ألا يشعر الشاب أن حلمه يبدأ فقط من المطار.

إن إعادة بناء سوريا لا تبدأ بالحجر، بل بالإنسان. فالحفاظ على الكفاءات ليس ترفًا وطنيًا، بل شرط للبقاء. كل عقل يغادر يحمل معه جزءًا من المستقبل، وكل عقل يبقى أو يعود يضع لبنة في طريق النهوض. الوطن لا يطلب من أبنائه التضحية، بل أن يجدوا فيه سببًا للبقاء، وأن يشعروا بأن طموحهم لا يعتبر خروجًا عليه، بل بناءً له. (أخبار سوريا الوطن-2)

مشاركة المقال: