عنب بلدي – اللاذقية: يشكو سكان المدن والقرى في الساحل السوري من تفاقم أزمة مياه الشرب المستمرة منذ سنوات، وذلك على الرغم من الوعود المعلنة. ومع انخفاض غزارة نبع "السن" بأكثر من 70% هذا العام، تتفاقم الأزمة التي تعاني منها المنطقة الساحلية ذات الخصوصية الزراعية، على الرغم من غزارة الأمطار ووفرة الموارد المائية فيها.
يزداد التخوف والمعاناة بين المزارعين والفلاحين من تبعات الجفاف الذي تشهده المنطقة الغنية بالينابيع والأنهار، وتأثير ذلك على الري، مع انتهاء الموسم الصيفي الحالي. وتُعقد الآمال على الموسم المقبل لتحقيق نسب هطول مطرية تعيد جريان الينابيع التي تغذي السدود، وتحقق تعافيًا على المستوى الزراعي، إذ يُنذر الانخفاض الحاد في معدلات الأمطار، وما يرافقه من نقص في نسب تخزين السدود، إضافة إلى جفاف أو شح العديد من الينابيع المحلية والآبار الارتوازية، بكارثة على المستويين الإنساني والزراعي.
أضرار في قطاع الزراعة
يسبب النقص المائي الحاصل هذا الموسم ضغوطًا كبيرة على المزارعين، إذ توقف كثيرون منهم عن زراعة المحاصيل الصيفية، واستبدلوا بها زراعات شتوية، على أمل أن يكون الموسم المطري المقبل أفضل، بحسب ما قاله المزارع عبد المجيد ع. (62 عامًا)، من قرية البرجان بريف جبلة، لعنب بلدي. وأشار المزارع إلى العطش الذي تعانيه الأشجار المثمرة وتضرر عدد كبير منها، وسط عجز المزارعين عن تأمين مصادر مائية خاصة، إذ إن تكلفة حفر بئر تعتبر "خيالية" بالنسبة لمزارع يتكبد سنويًا تكاليف باهظة، ويقع تحت خسائر في محاصيل لا تكاد تعوضه حتى قيمة المواد المستخدمة لإنجاح زراعته.
"الشريان الحيوي" في أسوأ حالاته
قال مدير الموارد المائية في محافظة طرطوس، محمد محرز، لعنب بلدي، إن غزارة نبع "السن" على الحدود الإدارية بين محافظتي طرطوس واللاذقية، تراجعت لأكثر من 70% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، نتيجة الجفاف الحاصل، مما انعكس سلبًا على واقع تزويد المياه منه. ويُستخدم الجزء الأكبر من مياه نبع "السن" لأغراض الشرب لمحافظتي اللاذقية وطرطوس، كما يُستخدم لأغراض الري، وللأغراض الصناعية في مصفاة بانياس، في حين بلغت غزارته في 23 من تموز الماضي حوالي 4.5 متر مكعب بالثانية، وهي أقل من الحد اللازم للاحتياج المائي للشرب.
توزع كميات مياه نبع "السن" التي يمكن استثمارها على محافظة طرطوس بنسبة 15%، إذ تستفيد منها عبر منظومة من الآبار الداعمة الغزيرة على طول الشريط الساحلي، منها آبار جديتي وتفريعة جديتي، ودوير الشيخ سعد، ودوير طه، ومرقية، وغيرها، وفق محرز. وأضاف مدير الموارد المائية بطرطوس، أن محافظة اللاذقية تزود بنسبة 77% من مياه نبع "السن"، فيما تخصص نسبة 7.5% للأغراض الصناعية في مصفاة بانياس.
وأوضح محرز أنه لمواجهة التحدي الحاصل هذا العام، شُكلت خلية أزمة لتقييم واقع النبع تباعًا، وذلك من فنيي مؤسستي المياه في طرطوس واللاذقية مع إدارة نبع "السن"، إذ تتم عملية تقييم تغذية المحافظتين ومصفاة بانياس بشكل دوري بحسب غزارة النبع. وأشار إلى أن الكميات الفائضة عن غسل الأحواض يُستفاد منها للري، كما يُعاد تدوير جزء منها لأغراض الشرب.
واقع الموارد المائية في طرطوس
بحسب المراقبات المطرية، فإن الهطولات لم تتجاوز هذا العام نسبة 60% من المعدل المطري المعتاد، الأمر الذي أدى إلى تراجع واردات المصادر المائية (أنهار، سدود، ينابيع، آبار) بشكل كبير، وفق ما تشير إليه القياسات الهيدرولوجية التي تقوم بها مديرية الموارد المائية مقارنة مع الأعوام السابقة، الأمر الذي تسببه التغيرات المناخية. وحول نسب تراجع مخزون سدود طرطوس هذا العام مقارنة بالعام الماضي، أوضح محرز أن نسبة التخزين في 21 من آب الحالي في سد "الأبرش" بلغت 17% بعد أن كانت 60% بذات التاريخ العام الماضي، و47% في سد "خليفة" مقارنة بـ87% العام الماضي، و2% فقط في سد "تل حوش" الأكثر تأثرًا.
ولفت محرز إلى أن هذا الأمر انعكس سلبًا وبشكل كبير على القطاع الزراعي، إذ عملت المديرية بالتنسيق مع الجهات المعنية (مديرية الزراعة واتحاد الفلاحين) على إعداد خطة سقاية تتناسب مع الكميات المتاحة في السدود والكميات التي يمكن استجرارها من الآبار والينابيع، وتصديقها من المحافظة وتعميمها على المزارعين للتقيد بها، بهدف إنقاذ المواسم الزراعية، وخصوصًا الأشجار المثمرة.
مياه الشرب.. واقع "مقبول"
من جهته، اعتبر مدير عام المؤسسة العامة لمياه الشرب بطرطوس، عبد الله طاهر الحمود، أن الواقع المائي في محافظة طرطوس "مقبول" بشكل عام، على الرغم من الظروف المناخية الصعبة، وما رافقها من انخفاض كبير بغزارة المصادر المائية التي تشكل مصادر أساسية لعشرات القرى والتجمعات السكانية بالمحافظة. وتابع الحمود أن المؤسسة استطاعت "بجهود كبيرة من إدارييها وفنييها" المحافظة على استقرار مائي في العديد من مراكز المدن الرئيسة، لا سيما بمدينة طرطوس، ومراكز مدن: بانياس، مشتى الحلو، الصفصافة، الدريكيش، القدموس، وبنسب أعلى في الشيخ بدر وصافيتا.
وأوضح الحمود أن الانحباس المطري أسهم بانخفاض كبير في غزارة المصادر المائية، لا سيما الينابيع، منها: نبع "الدلبة" الذي يغذي مدينة الدريكيش وقراها، ونبع "الديرون" الذي يغذي مدينة الشيخ بدر وقراها، ونبع "الشماميس" الذي يغذي مدينة صافيتا وقراها وقرى أخرى في الدريكيش، إضافة إلى العديد من الينابيع المهمة الأخرى كينابيع "نعمو الجرد"، "جسر الحاج حسن"، "بمحصر"، وغيرها.
ولفت الحمود إلى أن وضع مصادر الطاقة، لا سيما الكهربائية، واعتماد المؤسسة في تشغيل مشاريعها على مجموعات التوليد الاحتياطية القديمة بأعطالها الكثيرة قد يسهم بحدوث "اختناقات" في قرى ريف طرطوس، والتي تحتاج إلى استمرارية في ساعات التغذية بسبب طول شبكاتها. وعممت مؤسسة مياه الشرب بطرطوس بتفعيل لجان الضابطة العدلية في جميع الوحدات الاقتصادية لإزالة الاعتداءات على الشبكة العامة بما يحسن من واقع الخدمة، كما يتم العمل على ربط مشاريع جديدة بخطوط معفاة من التقنين.
اللاذقية.. حلول "قيد التنفيذ"
ذكر مدير الموارد المائية باللاذقية، محمود القدار، لعنب بلدي، أنه يجري الآن تنفيذ حلول مقترحة جديدة لدعم حصة مياه شرب اللاذقية، وتخصيص كمية لمياه الشرب في سدود "مشقيتا" و"بلوران" و"الحفة"، وتزويد مؤسسة مياه الشرب بها بشكل دائم. وبحسب القدار، يجري تزويد آبار المؤسسة على مجاري الأنهار بالمياه عن طريق ضخ كميات مدروسة ومتتالية من الماء في مجاري الأنهار.
وعن تخزين السدود باللاذقية، أوضح القدار أن نسبة التخزين في بداية شهر أيار مع بداية الموسم كانت حوالي 40% من حجم التخزين التصميمي، لتنخفض إلى 27.5% في 21 من آب الحالي قبل نهاية الموسم بأيام، استخدمت للري والشرب، مع ملاحظة كمية المياه الميتة في السدود (تمثل الجزء السفلي من خزان السد المخصص لتخزين الرمال والرواسب الأخرى المتراكمة، وليست لها قيمة وظيفية للاستخدامات المائية العادية) والكميات المخصصة لمياه الشرب، لذلك تم إعداد برنامج للري من قبل "لجنة الري الرئيسة". وتضمن برنامج الري عدد دورات الري والمساحات المشمولة بالحدود التي يسمح بها المخزون المائي، إذ إنه بالنسبة للسدود السطحية يتم الري حسب الطلب والمخزون المائي متوفر، أما بالنسبة لسد "طرجانو" فيتم تنفيذ دورة ري واحدة كاملة لمدة 20 يومًا، بحسب مدير الموارد المائية.
وأشار القدار إلى أنه يجري تنفيذ دورات ري شبه نظامية في سهول جبلة، بالاعتماد على سد "الحويز" حتى في ري الشبكات التي كانت تروى من نبع "السن" مباشرة. وأضاف القدار أنه تم حفر عدد من البرك المائية ضمن مجاري الأنهار الموسمية، وهي قريبة من بساتين المزارعين للاستفادة من مخزونها المائي بإشراف الروابط الفلاحية المختصة. وحددت المديرية كمية مائية مدروسة بعناية من سد "مشقيتا" بما لا يؤثر على مياه الشرب، وفتحتها على قنوات الري الرئيسة المكشوفة للسد، وبالتالي تمكين المزارعين من الاستفادة منها، إضافة إلى حفر برك على مجاري الينابيع المتوفرة لتجميع مياهها والاستفادة منها.