يمثل قرار وزارة الخزانة الأميركية برفع العقوبات عن سوريا، وقرار وزارة التجارة بتخفيف القيود على الصادرات وإعادة التصدير للمنتجات والخدمات والتقنيات الأمريكية (باستثناء العسكرية)، نقطة تحول حاسمة في مسيرة الاقتصاد السوري. تتجاوز هذه الخطوة الجوانب التجارية والتقنية، لتشكل إشارة سياسية واقتصادية نحو إعادة ربط سوريا بالنظام المالي العالمي بعد سنوات من العزلة.
موقف المصرف المركزي
أعرب عبد القادر حصرية، حاكم مصرف سورية المركزي، عن تقديره للقرار الأمريكي، مؤكدًا أن تعزيز الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية يمثل خطوة أساسية لدعم القطاع المالي والمصرفي في سوريا، خاصة في تطوير أنظمة الدفع الحديثة. وأوضح أن هذه التطورات ستساهم في دعم الإصلاح النقدي والمصرفي، وتعزيز الاستقرار النقدي، ورفع مستوى الشفافية. وأشار حصرية إلى أن المصرف المركزي ووزارة المالية، بالتنسيق مع وزارة الخارجية، يواصلون تواصلهم البناء مع وزارة الخزانة الأميركية، معتبرًا أن هذه الخطوات تمهد الطريق لدمج القطاع المالي السوري في النظام المالي العالمي، وفتح قنوات آمنة وفعالة للتبادل والتمويل.
إرث ثقيل وفرصة نادرة
يرى آلان خضركي، مستشار الامتثال المصرفي والحوكمة ومكافحة الجرائم المالية، في حديثه لمنصة سوريا 24، أن الصناعة المصرفية السورية، التي كانت رائدة إقليميًا في منتصف القرن الماضي، عانت من تدهور كبير نتيجة لسياسات التأميم والعقوبات، مما أدى إلى خروج الأموال السورية إلى الخارج وتراجع مستوى الكوادر والأنظمة مقارنة بدول الجوار. ويؤكد أن القرار الأمريكي يمثل فرصة لا تعوض لإعادة السمعة العريقة للمصارف السورية، شريطة استقطاب الكفاءات المهاجرة والاستفادة من خبراتها في تأسيس قطاع مصرفي حديث يتماشى مع أحدث المعايير الدولية. ويضيف خضركي أن رفع القيود يتيح للمصارف السورية والاقتصاد ككل الوصول إلى التكنولوجيا المالية الأمريكية التي يمكن أن تعالج نقاط ضعف مزمنة في القطاع، بدءًا من أنظمة الدفع اللحظي المستوحاة من FedNow، وصولًا إلى منصات KYC وأنظمة مكافحة الجرائم المالية والخدمات المصرفية الرقمية.
البنية التحتية: رهان على الاتصالات والطاقة والنقل
من جانبه، يؤكد الخبير الاقتصادي محمد غزال أن رفع القيود عن تصدير المواد والتقنيات المتعلقة بقطاعات الاتصالات والطاقة والصرف الصحي يشكل دفعة قوية لتحريك مشاريع بنى تحتية متوقفة منذ سنوات. ويشير إلى أن هذه الخطوة ستساهم في خفض تكاليف التشغيل وتحسين الإنتاجية وجودة المخرجات، خاصة في القطاعات الأكثر ارتباطًا بالطاقة والاتصالات. كما يرى غزال أن قطاع الطيران المدني سيكون من أبرز المستفيدين، إذ إن استئناف تدفق معدات الطيران بعد القطيعة الطويلة سيساعد في رفع كفاءة النقل الجوي، ويقلل من عزلة سورية اللوجستية، ويعيد ربطها جزئيًا بالاقتصاد الإقليمي. ويضيف أن دخول تقنيات جديدة، خاصة في مجالي الاتصالات والطاقة، يمكن أن ينعش النشاط الصناعي، ويشجع على استثمارات صغيرة ومتوسطة، ويحسن جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
رأي تقني: ربط عالمي يحتاج وقتًا
أما الخبير التقني صبحي أبو محمد، وهو اسم ترميزي فضل عدم نشر اسمه الصريح كونه يرتبط بعقد مع مؤسسة بنكية لا يتيح له التصريح، فيرى خلال حديثه لمنصة سوريا 24 أن أهمية القرار تكمن في إتاحة تفعيل مزايا بطاقتي فيزا وماستركارد في سورية، وهو ما يمهد لاستكمال الربط مع النظام المالي العالمي. ويوضح أن إصدار أو طباعة أي بطاقة مصرفية يجب أن يرتبط مباشرة بأنظمة الدفع الدولية، بما يشمل فيزا وماستركارد، إضافة إلى منصات الدفع الإلكترونية مثل Apple Pay وغيرها.
ويشرح أن بناء نظام بنكي مؤتمت يعتمد على ركائز أساسية، أبرزها:
- آليات محاسبة البنوك داخليًا بما يضمن الشفافية والامتثال للمعايير الدولية.
- توفير خدمات مصرفية عبر قنوات إلكترونية متكاملة.
- آليات ربط فعّالة مع البنوك العالمية تتيح التحويلات والمعاملات عبر الحدود بشكل آمن وفوري.
كما يشير إلى أن استيراد أنظمة مصرفية أمريكية لا يخدم السوق السورية فحسب، بل يحقق أيضًا مصلحة للولايات المتحدة عبر تعزيز سيطرتها على قواعد البيانات المالية العالمية. فهذه الأنظمة –بحسب وصفه– بُنيت تدريجيًا وتطورت ذاتيًا حتى وصلت إلى مرحلة شبه متكاملة وخالية من العوائق الكبيرة، في حين أن بناء أنظمة محلية بجودة مماثلة قد يحتاج أكثر من خمس سنوات تشمل التخطيط والتوزيع وتأهيل الكوادر المتخصصة. ويضيف أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب دورًا محوريًا في دعم هذا التحول، سواء في إدارة المخاطر، مكافحة الجرائم المالية، أو تحليل البيانات الضخمة، غير أن نجاح هذه العملية يبقى مرهونًا بوجود إطار تنظيمي وتشريعي متين واستثمارات جادة في تدريب الكفاءات.
نحو نهضة اقتصادية ومالية
تجمع آراء الخبراء على أن رفع القيود الأمريكية ليس مجرد تحديث تقني، بل هو إعادة تموضع استراتيجي للاقتصاد السوري، يشمل البنية التحتية، النقل، الطاقة، والقطاع المصرفي. ويؤكدون أن نجاح هذه المرحلة مرهون بقدرة مصرف سورية المركزي على قيادة التحول عبر خطة واضحة، عنوانها: التوقيع الإلكتروني، الأتمتة، الفروع الذكية، وركائزها: الثقة، الشفافية، والانفتاح على العالم.