الخميس, 29 مايو 2025 08:47 PM

من حطام إلى رمز: تمثال الأسد المحطم في دير عطية.. صرخة لحفظ الذاكرة السورية

من حطام إلى رمز: تمثال الأسد المحطم في دير عطية.. صرخة لحفظ الذاكرة السورية

منصور العمري في لحظة تاريخية فارقة، تحوّل تمثال الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في دير عطية، الذي كان أكبر تمثال له في سوريا، لحظة إسقاطه من مجرد أنقاض إلى عمل فني جماعي عفوي صنعه السوريون في أصدق حالاتهم، وشاهد حي على إرادة شعب وتوقه للحرية. من هذا المنطلق، نتوجه بنداء عاجل إلى وزارة الثقافة السورية النشطة، راجين التحرك الفوري لحفظ هذا الأثر الفريد وعدم اعتباره مجرد حطام يستوجب الإزالة. صورة “سقوط الطغاة.. نهاية عصر القمع والظلم” (المصور الصحفي السوري عمر حاج قدور)

رمزية تتجاوز الحطام

تحويل هذا التمثال وحطامه، الذي يرمز لحقبة حكم الأسدين في سوريا، إلى نصب تذكاري، هو ضرورة وطنية وتاريخية شديدة الأهمية. فهو تجسيد مادي حي لحدث هز سوريا والمنطقة بأكملها، ويعكس تحولًا عميقًا في سوريا ورفضًا لرموز وتمجيد نظام سقط. إنشاء نصب تذكاري في الموقع سيضمن حفظ تلك اللحظة الحاسمة للأجيال القادمة، مانعًا أي محاولات لطمسها أو نسيانها. مشروع النصب التذكاري في دير عطية يكرّم رمزية الصمود وإرادة الشعوب. فإسقاط التمثال لم يكن حدثًا عابرًا أو مجرد تعبير عن السخط، بل كان تحطيمًا لرمز سلطوي، وتعبيرًا قويًا عن تطلع الشعب السوري نحو التحرر والكرامة. يضمن النصب توثيق هذه اللحظة الحاسمة في التاريخ السوري المعاصر، ويقدم رواية مادية وملموسة لما حدث، ويذكر بحدث شكّل نقطة تحوّل في سوريا والمنطقة. كما أنه يخلد لحظة التخلص من رمز القمع، ليصبح رسالة وطنية وعالمية واضحة بأن إرادة الشعوب قادرة على إحداث التغيير مهما كان صعبًا.

فن اللحظة الصادقة.. عمل فني واقعي

لا يقتصر الفن على ما يُصنع عمدًا في الاستوديوهات أو المتاحف بأيدي فنانين محترفين. أحيانًا، تولد أعمال فنية عفوية في لحظات تاريخية مفصلية، تكون نتاجًا لمشاعر جماعية مكبوتة تنفجر في فعل واحد. تحطيم تمثال حافظ الأسد في دير عطية لم يكن عملاً تخريبيًا، بل كان فعلًا جماعيًا بناءً مدفوعًا بإحساس عميق بالظلم وتوق للحرية. اللحظة التي سقط فيها التمثال، وانكساره وتشوهه، لم تكن مُخططة فنيًا، لكنها أصبحت تشكيلًا بصريًا للغضب والعدالة والأمل والتحول. وُلد هذا العمل الفني في أصدق حالات السوريين، فالصدق في التعبير يمنحه قوة فنية هائلة تتجاوز أي عمل نحتي مصقول. يمكن فهم هذا التمثال بوضعه الحالي من منظور “النحت الجاهز” (Readymade) في الفن الحديث، حيث يتم تحويل كائن عادي إلى عمل فني بمجرد إعادة تأطيره أو تغيير سياقه. فالتمثال سقط وتغير شكله بفعل قوة جماهيرية، وهذه القوة حولته من مجرد رمز للسلطة إلى أثر يعبر عن فعل المقاومة والتحرر. الشكل الذي استقر عليه التمثال بعد السقوط ليس مجرد فوضى، بل هو تجسيد بصري لفكرة التغيير والكسر. إنه يخبرنا بصريًا أن شيئًا ما تحطم، وأن الحقبة التي كان يمثلها انتهت بعنف. الأسمنت المتراكم والحديد الملتوي ليست عيوبًا، بل هي جزء أساسي من سرديته الفنية. بالنسبة للأجيال القادمة، سيكون هذا النصب مساحة حيوية للتعلم والتأمل. مع إضافة لافتات تفسيرية ومواد توثيقية، سيقدم سياقًا تعليميًا غنيًا يعمّق الوعي التاريخي. كما أن وجوده يُعد مقاومة ضرورية ضد محاولات الطمس وإعادة كتابة التاريخ، فهو تأكيد مادي على حدث لا يمكن محوه، مما يسهم في مقاومة أي محاولات مستقبلية لتشويه الذاكرة. يرتبط حدث إسقاط التمثال بشكل وثيق بسياق الصراع في سوريا للتخلص من نظام الأسد القمعي، والذي خلف دمارًا هائلًا ومعاناة إنسانية كبيرة. يمكن للنصب أن يكون تذكيرًا بالتكلفة الباهظة التي دفعها السوريون في سعيهم للتغيير والتخلص من الظلم. كما يحفز على التفكير في أسباب هذه الأحداث وتبعاتها، مما يعمق الفهم في الذاكرة الجمعية التي لا تزال مثقلة بالآلام والخسائر.

رؤية للنصب التذكاري

لهذه الأسباب الجوهرية، يجب الحفاظ على هذا العمل الفني بوضعه الحالي دون أي تعديل (إلا لأسباب السلامة)، وبموقعه الاستراتيجي الذي أراده نظام الأسد ليراه كل من يعبر الطريق الرئيسي. أي محاولة لإعادة تشكيل التمثال المحطم، ستكون بمثابة تجريد له من قيمته الفنية والتاريخية الجوهرية. بقاؤه كما هو، بكل تشوهاته الناتجة عن السقوط، هو ما يمنحه قوته كعمل فني جماعي، وشاهد أمين على لحظة تاريخية لا يمكن محوها من ذاكرة السوريين. المشروع يركز على الحفاظ على الموقع بوضعه الحالي، مع إضافة تحسينات لضمان السلامة، وتوفير تجربة تعليمية وتفاعلية للزوار، وضمان رؤية النصب من الطريق الرئيسي. يمكن إنشاء سياج حول الموقع، بتصميم يسمح بالرؤية الواضحة للتمثال من الخارج، مع الحفاظ على واقعية المشهد. كما يمكن بناء منصات مشاهدة وتصوير مرتفعة قليلًا خارج السياج، توفر زوايا رؤية ممتازة للتمثال، وتسمح بالتقاط الصور التذكارية بشكل آمن ومريح. كذلك، يمكن صياغة نص موجز ومؤثر يشرح قصة التمثال، دلالة سقوطه، وعلاقته بالثورة السورية، على أن يكون النص محايدًا تاريخيًا ويركز على الحقائق، ويُقدم بلغات متعددة. من الممكن إنشاء لوحة رقمية كبيرة تعرض فيلمًا وثائقيًا قصيرًا أو فيديو فنيًا يصور لحظة إسقاط التمثال، مع إضافة سياق تاريخي وشهادات حية، ومرئيات لحظة إسقاطه، والمواد الإعلامية التي غطت هذا الحدث. أخيرًا، مشروع تحويل تمثال دير عطية إلى نصب تذكاري هو استثمار ضروري في الذاكرة الوطنية السورية ومستقبلها. فهو يشكل جسرًا يربط الماضي بالحاضر ويستشرف المستقبل، ويضمن أن تُروى قصة صمود الشعوب والتخلص من الظلم والظلام للأجيال القادمة في سوريا والمنطقة والعالم أجمع.

منصور العمري: مدافع سوري عن حقوق الإنسان، وباحث قانوني، حاصل على ماجستير قانون في العدالة الانتقالية والنزاع. عمل العمري مع متاحف ومعارض عديدة حول العالم وفنانين من مختلف الجنسيات لرفع مستوى الوعي الدولي بشأن ممارسات نظام الأسد في الاعتقال والتعذيب والاخفاء القسري وجرائمه ضد الإنسانية. كما عمل العمري مع منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا.

في عام 2012، اعتقلت الحكومة السورية العمري وعذبته لمدة 356 يومًا بسبب توثيقه فظائعها، في أثناء عمله مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.

مشاركة المقال: