في تطور لافت للانتباه، أدلى المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، بتصريحات أثارت جدلًا واسعًا حول السياسة الأمريكية تجاه سوريا، خاصة بعد إعلانه عن نهاية عصر التدخلات الغربية وانتقاده الحاد لاتفاقية سايكس بيكو التي شكّلت المنطقة قبل أكثر من قرن. تصريحات باراك، التي جاءت في أعقاب لقائه مع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع في إسطنبول، أشارت إلى تحوّل محتمل في نهج واشنطن تجاه دمشق، مع التركيز على دعم الاستقرار الإقليمي والشراكات القائمة على الاحترام المتبادل.
خلفية التصريحات
في منشور على منصة “إكس”، قال باراك: “قبل قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط وحدودًا مرسومة ووصايات وحكمًا أجنبيًا. فقد قسمت اتفاقية سايكس-بيكو سوريا والمنطقة الأوسع لتحقيق مصالح إمبريالية، لا من أجل السلام، وقد كلّف هذا الخطأ أجيالًا كاملة، ولن نسمح بتكراره مرة أخرى.” وأضاف: “لقد انتهى عصر التدخلات الغربية. المستقبل يعود للحلول الإقليمية، المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام.”
تلك التصريحات، التي وصفتها وسائل إعلام عربية بـ”التاريخية”، جاءت في سياق إعلان باراك تولّيه منصب المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، بالإضافة إلى دوره كسفير للولايات المتحدة في تركيا. وتزامنت مع إعلان إدارة الرئيس دونالد ترمب عن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، بهدف “هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية نهائيًا ومنح الشعب السوري فرصة لمستقبل أفضل”.
واشنطن ودعم استقرار الوضع في سوريا
المحلل السياسي محمد بقاعي علّق على هذه التصريحات قائلًا: “تصريحات تأتي في سياق التحول الذي يجري في السياسة الخارجية الأمريكية. الولايات المتحدة تسعى إلى تخفيف حدة الصراعات في المنطقة، وتعزيز الاستقرار فيها، وذلك بالاعتماد على الشركاء المحليين. كيف يمكن الوصول إلى ذلك؟ من خلال تقليص نطاق الصراعات، وباعتقادي، فإن ما حدث في سوريا لا يصب في مصلحة أمريكية تتعلق بتغيير النظام السياسي هناك فحسب، بل أيضًا بسبب تأثيرات هذه الصراعات على دول الإقليم، خصوصًا الدول الحليفة للولايات المتحدة”.
وأضاف بقاعي في حديث لمنصة “سوريا 24”: “من جهة أخرى، هناك موجات اللجوء والهجرة التي طالت أوروبا، والتي باتت تؤثر على الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر، وأرى أن هذا الواقع يمثل مؤشرًا على أن الولايات المتحدة ستدعم استقرار الوضع في سوريا، وقد شهدنا أولى المؤشرات على ذلك من خلال تخفيض العقوبات أو إلغائها جزئيًا، ومن ثم رفع بعض القيود”. وتابع: “أما المؤشر الثاني فقد يكون توجهًا نحو تقديم دعم لوجستي أو مالي من قبل الولايات المتحدة ومن حلفائها. لذلك، أعتبر أن هذا التصريح يندرج ضمن السياق الطبيعي للتغير في السياسة الأمريكية تجاه سوريا والمنطقة عمومًا”.
سياق تاريخي: سايكس-بيكو وتداعياتها
تأتي إشارة باراك إلى اتفاقية سايكس-بيكو في سياق حساس، حيث تُعتبر هذه الاتفاقية، التي أُبرمت سرًا عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، رمزًا للتقسيم الاستعماري للشرق الأوسط. انتقاد باراك لهذه الاتفاقية يعكس رغبة واشنطن في الابتعاد عن سياسات التدخل المباشر التي ميّزت القرن الماضي، مع التركيز على دعم الحلول الإقليمية. ومع ذلك، قد تكون التصريحات تمهيدًا لتغييرات جيوسياسية جديدة، بما في ذلك ما وصفه أحد المعلقين على منصة “إكس” بـ”تمهيد لإسرائيل الكبرى”، في إشارة إلى تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول “شرق أوسط جديد”.
من جهته، قال الكاتب والمحلل السياسي مالك عبيد في حديث لمنصة “سوريا 24”: “في ظل التغيرات الإقليمية والدولية المتعاقبة بعد سقوط النظام في سوريا، برزت مواقف سياسية مع هبوب رياح التغيير في سوريا، وخاصة بعد خروج سوريا من عنق الزجاجة وانفتاحها على العالم. وهذا التسارع الذي حدث على الصعيد السياسي يُعد مؤشرًا مهمًا لبداية الاستقرار في سوريا، ونهاية الحروب وطيّ صفحة الماضي التي أنهكت السوريين من حروب ودمار وتدخلات خارجية أدّت إلى إنهاك سوريا وعزلتها عبر عقود من الزمن”.
وأضاف عبيد: “اليوم، وبعد توجّه الخطاب الدبلوماسي من المبعوث الأمريكي، الذي يؤكد فيه على فتح بوابات التعاون في كل المجالات مع سوريا لإعادة تألقها وإعادة إعمارها ومنع أية تدخلات خارجية، والتأكيد على استقرارها، كون استقرارها من استقرار المنطقة بشكل عام”.
مؤشرات التحول الأمريكي
تتعدّد المؤشرات التي تشير إلى تحوّل في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، ومن أبرزها:
- رفع العقوبات: أعلنت إدارة ترمب عن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، وهي خطوة وُصفت بأنها تهدف إلى تمكين الشعب السوري من “فتح باب السلام واكتشاف طريق جديد للازدهار والأمن”.
- التعاون الإقليمي: أكّد باراك على أهمية التنسيق مع الحلفاء الإقليميين مثل تركيا والسعودية، ما يعكس نهجًا جديدًا يعتمد على الشراكات بدلًا من الهيمنة، وقد أشار إلى أن “استقرار سوريا ينعكس إيجابًا على كل المنطقة”.
- الانفتاح الدبلوماسي: اختيار السعودية لاستضافة أول لقاء بين ترمب والرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، وتركيا لاستضافة لقاء وزراء الخارجية، يعكس تنسيقًا دقيقًا لتأسيس علاقات دبلوماسية جديدة مع الحكومة السورية الجديدة.
- دعم الاستقرار: أكد باراك أن “مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، وولادتها مجددًا تأتي من الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها”، مشيرًا إلى دعم الولايات المتحدة لإعادة إعمار سوريا من خلال التعاون مع تركيا ودول الخليج وأوروبا.
تصريحات توماس باراك تمثّل لحظة مفصلية في العلاقات الأمريكية السورية، حيث تشير إلى تحوّل من سياسة التدخل المباشر إلى نهج يعتمد على الشراكات الإقليمية ودعم الاستقرار. ومع ذلك، تبقى الأسئلة حول النوايا الحقيقية للولايات المتحدة، ومدى التزامها بهذه الرؤية، قائمة، خاصة في ظل التعقيدات السياسية والقانونية المرتبطة برفع العقوبات والتعاون مع الحكومة السورية الجديدة.