السبت, 31 مايو 2025 08:55 PM

الصمت العقابي في العلاقات: متى يكون سلاحًا ومتى يكون ملاذًا؟

الصمت العقابي في العلاقات: متى يكون سلاحًا ومتى يكون ملاذًا؟

فاطمة عباني

يُقال إن الجمال في عين الناظر، ولكن اسمحوا لي بأن أضيف، من وجهة نظري المتواضعة، أن الصمت أيضاً في عين الناظر. فحين نحب، نحتار كيف نفسّر كلام الشريك، حتى الذمّ نسمعه غزلاً، ونغدق عليه الأعذار والتبريرات. وحين نكره، قد يثير فينا، حتى الصمت غضباً، فنحمّله ما لا يُقال، ونحلّله بقولنا: "صحيح أنه لم يقل ذلك، لكنني شعرت أنه قصده."

ولكل مقام "صمت ومقال"؛ فالصمت في العزاء وقار، أما في خطاب أمام حشد غفير فقد يكون كارثة!

العلاقة الزوجية… بين الاختلاف والصمت

توضح الاختصاصية في علم النفس العيادي-التكاملي، فاتن جميل الحلبي، أن العلاقة الزوجية هي شراكة بين شخصين قادمين من خلفيات وتجارب مختلفة، وغالباً لا يعرفان تماماً ما الذي ينتظرهما بعد الزواج. ففي مجتمعاتنا الشرقية، لا يتمتع الطرفان غالباً بحرية كافية قبل الزواج، ورغم بعض التغيرات الراهنة، لا تزال هناك برمجة اجتماعية وموروثات ثقافية تدفع الزوجين إلى عدم التصرف على سجيّتهما إلا بعد العيش تحت سقف واحد.

وتشير الحلبي إلى أن كل فرد يأتي من بيئة أسرية شكّلت لديه نموذجاً خاصاً عن العلاقات، وبالتالي من الطبيعي أن تتخلل العلاقة الزوجية بعض الخلافات. لكن الأهم هو كيفية التعامل مع هذه الخلافات.

في هذا الإطار، يبقى التواصل الفعّال والصحي هو الركيزة الأساسية لحلّ الخلافات، لكنه في الواقع نادر الحدوث ولا يتحقق إلا عبر الوعي والتدريب المستمر على المشاركة والإصغاء. وتلفت إلى أن هذا النوع من التواصل غائب إلى حد كبير عن لاوعينا الجمعي، ما يجعل ردود الفعل عند النزاعات تتراوح بين التطرف، العدوانية، أو… الصمت.

يُمارَس هذا النوع من الصمت إلى جانب مظاهر أخرى من الإقصاء، بحيث يتصرف الشخص بشكل طبيعي مع الجميع باستثناء الشريك المستهدف

أنواع الصمت وأسبابه

تلفت الحلبي إلى أن الصمت ليس دائماً وسيلة لمعاقبة الآخر. ففي بعض الأحيان، يكون الإنسان بحاجة إلى الانفراد بنفسه، لفهم ذاته وتحديد كيفية التصرف. قد يكون خائب الأمل من توقعات لم تتحقق، أو مصدوماً من موقف، فيختار الصمت وسيلة لإعادة التوازن النفسي.

هذا النوع من الصمت قد يكون ناتجاً عن الخوف من إيذاء الآخر بكلمات جارحة، أو من غياب القدرة على التعبير، أو حتى بسبب افتقاد نماذج تُحتذى في التعبير عن الذات. ولكن مع الوقت، ومن خلال تفهّم الشريك وتعاطفه، يمكن أن يتحوّل هذا الصمت إلى حوار بنّاء، يعالج نقاط الخلاف ويبدّد التوتر.

أما الصمت العقابي، فيختلف في طبيعته ودوافعه. إذ يتسم بالعدوانية المقصودة تجاه الآخر، ويُستخدم بشكل متعمّد أداة للتجاهل والتأديب. غالباً ما يُمارَس هذا النوع من الصمت إلى جانب مظاهر أخرى من الإقصاء، بحيث يتصرف الشخص بشكل طبيعي مع الجميع باستثناء الشريك المستهدف. وتختلف مدة هذا الصمت بحسب عمق الاضطراب أو الجرح الذي دفع إليه.

وهناك أيضاً الصمت الذي قد يتطور مع مرور السنوات في الزواج. فعندما يتكرّر نمط الخلافات دون الوصول إلى حلول، يشعر الأزواج بأن الكلام بات بلا جدوى، فيختارون الصمت وسيلة للحفاظ على طاقتهم النفسية.

تعبيرية تعبيرية

كيف نميز نوع الصمت؟

يمكن التمييز بين أنواع الصمت من خلال مراقبة نوايا الصامت: هل يُستخدم للإساءة أو لابتزاز العاطفي؟ هل يترافق مع استبعاد وتجاهل؟ ما مدته؟ وهل يترك الطرف الآخر في دوامة من التساؤلات والتأنيب؟

كيف نتعامل مع الصمت العقابي؟

إذا كان الشريك يعتمد الصمت، تنصح الحلبي أولًا بمحاولة تفهّم موقفه والتقرب منه بلطف، ما يمنحه شعوراً بالأمان ويدفعه إلى كسر صمته تدريجياً، بخاصة إذا كان الصمت نابعاً من تجنب الصدام أو الخوف من التعبير. لكن في حال تكرار هذا السلوك كأسلوب من الصمت العقابي، يصبح من الضروري تجاهله، لإيصال رسالة مفادها أن هذا الأسلوب غير فعّال وغير مؤثر.

تؤكد الحلبي أن الوصول إلى تواصل ناضج يستلزم عنصرين أساسيين:

  • الإصغاء بتجرّد وتعاطف.
  • الحوار بلغة “الأنا” وليس “الأنتَ”، أي التعبير عن المشاعر دون اتهام، مثل: “أنا أشعر بالحزن بسبب….” بدلًا من “أنت تتصرف دائماً بـ…”. بهذه الطريقة، نقلّل من التشنج.

تجارب شخصية

لغة ثانية

بالنسبة إلى ياسمين، تختلف وجهات النظر حول الصمت العقابي؛ فبينما يرى بعضهم أن التواصل هو المفتاح لحلّ الخلافات، تعتقد أن هذا لا يصح دائماً، إذ إن الصمت يكون أحياناً أبلغ من كثرة الكلام."كنت في علاقة دامت عشر سنوات وتوّجت بزواج استمر عاماً. في كثير من المرات، كان يصغى إليّ أكثر عندما ألتزم الصمت، مقارنة بالأوقات التي كنت أعبر فيها عن انزعاجي. ربما كان هناك سوء تواصل أو تفاوت في مستوى المشاعر والتفكير، لكن الصمت، بالنسبة إلي، كان أداة فعالة".

وتصف ياسمين الصمت العقابي بـ"القرصة"، خصوصاً عندما يصدر من شخص معروف بعاطفيته واهتمامه، مثلاً مثلها. تضيف: "حين أُمارس الصمت، يبدأ الطرف الآخر بالتساؤل: ماذا فعلت؟ ما الذي تغيّر؟ ما الخطأ الذي اقترفته؟ بعد الطلاق، بقي صمتي وسيلة أوصل من خلالها رسالة، وخصوصاً أنني لم أكن المخطئة: أنت لا تستحق حتى كلمة مني. لذا، لا أراه مؤذياً بالضرورة، بل لغة ثانية تُستخدم حين لا يجدي الكلام. وقد ينطبق هذا ليس فقط على العلاقة الزوجية، بل حتى في بيئة العمل".

شكل من أشكال العنف

من ناحية أخرى، ترى فرح أن الصمت العقابي قد يكون مدمّراً على المدى الطويل. "الصمت العقابي يتحوّل إلى نمط حياة في حلّ الخلافات، لكنه لا يؤدي إلا إلى تراكم المشكلات وغياب الحلول. إنه من أسوأ ما قد يحدث بين زوجين لأنه يؤجل المشكلة ولا يعالجها". وتضيف: "من يتعرض للصمت العقابي قد لا يعرف حتى سبب الخلاف، فيلجأ إلى تحليل مفرط يقوده إلى سوء الفهم. وهذا مؤذٍ، بخاصة إذا كان الطرف الآخر مستعداً للتغيير لكنه يجهل أين تكمن المشكلة لأن الشريك لا يفتح باب الحوار. في نظري، الصمت العقابي هو شكل من أشكال العنف".

خيار وسط

أما بترا، فترى أن الصمت العقابي يمكن أن يكون خياراً وسطاً، شرط ألا يتحوّل إلى عادة دائمة. "إذا عبّر الشريك مراراً عن انزعاجه ولم يُؤخذ على محمل الجد، قد يصبح الصمت العقابي الوسيلة الوحيدة لإيصال الرسالة. هو لا يعني القطيعة التامة، بل طريقة لقول: عليك أن تتحمل مسؤولية أفعالك". وتؤكد أن الصمت يجب أن يكون أداة موقتة، لا بديلاً دائماً من الحوار.

نظرتي إلى الصمت أقرب إلى القداسة، لا لشيء، بل لما يضفيه من هالة روحانية على لحظات نعيشها بصمت: لحظات جميلة نعيشها دون أن نُفسدها بكلام، وليالٍ حزينة نعبرها بصمت كي لا يخذلنا البوح، وأشخاص يخطفون أنفاسنا دون أن ينطقوا بكلمة، وآخرون نختار ألا نسمعهم، فيروننا ولا نراهم. ليس كل صمتٍ عقاباً. بعضه حبٌّ وتغاضٍ مقصود عن العيوب. لكن فقط لمن يُجيد لغة الصمت.

أخبار سوريا الوطن١-النهار

مشاركة المقال: