مع بداية عام 2025، تغيّرت ملامح الشرق الأوسط جذريًا؛ من سقوط النظام السوري، إلى تراجع الدور الإيراني، تزامن كل ذلك مع تحوّل جذري في نبرة واشنطن، التي بدت وكأنها تعيد تعريف موقعها ودورها في المنطقة. لم يعد الأمر مجرّد انطباع أو قراءة تحليلية، بل بات خطابًا علنيًا يصدر من أرفع المستويات داخل الإدارة الأميركية.
نائب الرئيس الأميركي، جي ديفانس، يعلن بوضوح: “محاولة بناء ديمقراطيات في الشرق الأوسط كانت شبه مستحيلة، ومكلفة بشكل لا يُصدّق”. تصريح كهذا لا يُفهم على أنه مجرد نقد لتجربة سابقة، بل هو إعلان رسمي عن نهاية مرحلة، امتدت لأكثر من عقدين، شكّلت خلالها أميركا ملامح المنطقة بيدٍ عسكرية، وبأخرى أيديولوجية.
لكن إذا كانت أميركا قد تخلّت عن مشروع “نشر الديمقراطية”، فمن الذي سيدفع الثمن؟ وهل يعني هذا نهاية التدخل؟ أم مجرّد إعادة صياغته؟ وما تأثير هذا التحول على الأنظمة القمعية في منطقتنا؟ وعلى ما تبقّى من نبضٍ ثوري أو معارضة حقيقية؟
لماذا هذا التحوّل؟ السبب الأعمق لا يكمن فقط في “الاعتراف بالفشل”، بل في أن المشروع برمّته لم يعد يخدم الأولويات الأميركية، التهديد الرئيسي لم يعد يأتي من الشرق الأوسط، بل من آسيا، حيث تتقدّم الصين بثبات. والداخل الأميركي نفسه يواجه أزمة هوية: انقسام سياسي، اضطرابات اجتماعية، وشكوك متزايدة في جدوى التدخلات الخارجية، وبصراحة، لم تكن “الديمقراطية” في يوم من الأيام غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لاختراق المجتمعات والتحكم بمساراتها وفق أجندة تخدم واشنطن.
الأنظمة غير الديمقراطية… في وضع مريح مؤقتًا
هذا التحول يُعدّ هدية من السماء لكثير من الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الرسالة أصبحت واضحة: “أميركا لن تضغط عليكم للإصلاح… ما دمتم تؤمّنون المصالح الأمنية والاقتصادية الأساسية.” ومن المتوقع أن نشهد خلال المرحلة القادمة تراجع الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان والحريات، بالإضافة إلى تعزيز أكبر للعلاقات الأمنية والعسكرية بين واشنطن وأنظمة قمعية، بحجة “الاستقرار”، وتوسّع في أدوات القمع الداخلي، دون خوف من العقوبات الغربية.
لكن هذا “الارتياح” مؤقت، لأن أنظمة كهذه لا تملك قاعدة شعبية حقيقية، ولا حلولًا اقتصادية مستدامة. ومع غياب الإصلاحات، تصبح عاجزة عن امتصاص أي صدمة اجتماعية أو سياسية.
ورغم ذلك، من المهم الإشارة إلى أن هذا التحول الأميركي لا يعني انسحابًا كاملاً من المنطقة. ففي سوريا – على سبيل المثال – نرى انخراطًا متزايدًا مع الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع. لكن هذا الانخراط لا يأتي من باب إعادة إحياء مشروع الديمقراطية، بل من زاوية استقرار ما بعد الصدمة، وشراكة سياسية اقتصادية تحقق لواشنطن إعادة التموضع دون الالتزام بتغيير بنية الأنظمة من الداخل.
الثورات والمعارضات… أمام جدار بارد
أسوأ ما في هذا التحول، أنه يأتي في لحظة إنهاكٍ تاريخية تمر بها الحركات الثورية والمعارضات في المنطقة. فبعد موجات القمع، والانقسامات، والتدخلات، تقف هذه القوى اليوم أمام واقع جديد حيث لم تعد “الديمقراطية” حتى مجرّد شعار مغرٍ للقوى الغربية، واختفت فرص الدعم، وقلّ الاهتمام، وأصبح “الاستقرار” هو المطلب الغربي الوحيد.
وبعض الحركات قد تتحوّل من النضال السياسي إلى مسارات أكثر راديكالية ويأسًا، ما يُعيد إنتاج العنف والفوضى، لكن، في المقابل، يمكن لهذا الانكشاف أن يشكّل فرصة لإعادة البناء، حيث يتحرّر الخطاب الثوري من وهم “المجتمع الدولي”، وبداية مراجعة داخلية حقيقية لطبيعة المشروع، أهدافه، ووسائله.
هل نستطيع الاعتماد على أنفسنا؟
انسحاب أميركا من مشروع “نشر الديمقراطية” لا يعني نهاية الهيمنة، بل تحوّلها من هيمنة أيديولوجية إلى هيمنة واقعية باردة. والمعادلة الآن أمام الجميع واضحة، فإذا لم تبنِ الشعوب أدواتها الذاتية للتغيير، فلن يفعلها أحد نيابة عنها، وإذا لم تُنتج هذه المنطقة مشروعها الديمقراطي من داخلها، فلن يأتيها من الخارج سوى القمع والوصاية.
التاريخ لا ينتظر الموعودين بالحرية… بل يصنعه أولئك الذين يرفضون أن يعيشوا تحت رحمة صفقات الكبار.
قصي حياني