يثير هدم مقبرة «أمير الشعراء» أحمد شوقي، وقبله قبر الشاعر محمود سامي البارودي، وغيرهما من رموز مصر التاريخية، موجةً من الجدل في الأوساط الثقافية والحقوقية، بعدما طالتها أعمال الإزالة ضمن خطط «تطوير» البنية التحتية في القاهرة.
وتقع المقبرة في منطقة «السيدة نفيسة»، التي تتعرّض للهدم والإزالة، وهي تعدّ إحدى أقدم جبانات العاصمة المصرية، وتضمّ رفات شخصيات أدبية وتاريخية بارزة.
تفتح هذه الحادثة باباً على مصير جبانات القاهرة التاريخية، الممتدة منذ قرون، وقد تحولت في السنوات الأخيرة إلى مسرح صراعٍ بين الرغبة في «تحديث المدينة» والإصرار على حماية ذاكرة موتاها. فهل يمكن بناء مستقبل تُمحى فيه قبور المبدعين؟ وهل للحداثة أن تقوم على أنقاض التاريخ؟
وبينما تؤكد الجهات الرسمية أنّ هذه الإزالات تتم ضمن خطط تهدف إلى تحسين حركة المرور وتوسيع المحاور المرورية، ترى أطراف معنية بالتراث أنّ هذه الإجراءات تهدّد بفقدان معالم جنائزية ذات قيمة معمارية وثقافية، بعضها غير موثق رسمياً، لكنها تمثل جزءاً لا يُستهان به من تاريخ القاهرة الحضري.
منذ صيف 2020، شهدت جبانات القاهرة التاريخية، الممتدة على أطراف العاصمة منذ العصر المملوكي، موجةً من الإزالات المرتبطة بمشاريع تطوير البنية التحتية، وعلى رأسها مشروع «محور الفردوس».
وقد أثارت هذه الأعمال موجات متتالية من الجدل، خصوصاً حين طالت مقابر لشخصيات أدبية وفكرية بارزة مثل أحمد شوقي وطه حسين، وسط اتهامات بتهميش البُعد الثقافي والتاريخي لمصلحة التوسعة المرورية.
بدأت الأعمال فعلياً في منتصف عام 2020، مع تدشين المرحلة الأولى من «محور الفردوس»، وهو طريق سريع يقطع قلب المنطقة الجنائزية القديمة من شرق القاهرة إلى غربها. في هذه المرحلة، أُزيلت عشرات القبور في منطقة «منشأة ناصر» من دون إعلان رسمي مفصّل، ما أثار انتقادات محدودة آنذاك بسبب محدودية التوثيق الميداني والإعلامي.
وفي عام 2022، بدأ الجدل يتخذ طابعاً أوسع، عقب إعلان نية إزالة مقبرة طه حسين. ورغم التراجع عن القرار لاحقاً، إلا أنّ الحدث أطلق حملةً اجتماعية وثقافية واسعة النطاق تحت شعار «أنقذوا جبانات القاهرة التاريخية»، شارك فيها أكاديميون ومؤرخون ومهندسو عمارة، طالبت بتجميد أعمال الهدم وتقييم الأثر التراثي للمشروع.
أما عام 2023، فمثّل نقطة تحول حاسمة. استؤنفت الإزالات بوتيرة متسارعة، حتى وصلت حالياً إلى مقبرة الشاعر أحمد شوقي، ما أثار ردود أفعال واسعة في الأوساط الثقافية والإعلامية.
في الوقت نفسه، وُسِّع نطاق الهدم ليشمل مناطق من «قرافة الإمام الشافعي»، وإزالة قبب تاريخية بحجة «عدم تسجيلها كآثار رسمية».
دفعت هذه التطورات منظمة اليونسكو إلى توجيه تحذير للحكومة المصرية بشأن المساس بمنطقة «القاهرة التاريخية» المدرجة على قائمة التراث العالمي منذ عام 1979.
في عام 2024، انتقلت الحملة الحقوقية إلى المجال القانوني، إذ رفعت منظمات مدنية، مثل «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» و«المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، دعاوى تطالب بوقف أعمال الهدم. غير أنّ العقبات القانونية المتعلقة بإثبات «المصلحة المباشرة» للمدّعين وغيرها من حجج حالت دون تحريك الدعاوى القانونية، بينما استمرت الإزالات بشكل متقطع.
في بداية عام 2025، امتدت أعمال الهدم إلى جبانة «باب النصر»، في الجزء الشمالي من القاهرة القديمة، حيث أُزيلت مساحات واسعة لمصلحة مشروع إنشاء موقف سيارات متعدد الطوابق ومرافق خدمية وتجارية. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أنّ المساحة التي تمت إزالتها، تجاوزت 13 ألف متر مربع، ما يعيد الجدل حول أولويات التطوير في المدينة وحدود المساس بمناطقها التاريخية.
في ذروة هذا الهدم الذي طال قلب القاهرة التاريخي، حذرت جليلة القاضي، أستاذة التخطيط العمراني، من أنّ ما يحدث في «قرافة الإمام» و«السيدة نفيسة» يتجاوز مشاريع الطرق إلى مخطط لإزالة الجبانات التاريخية برمّتها.
وقد أرفقت مقدمة للترجمة العربية لكتابها: «جبانة القاهرة التاريخية ألف وأربعمائة عام» تشرح فيها مآلات أحداث الهدم، ووصفته بأنه «ليس مجرد توسعة للطرق.
إنه جزء من مخطط أوسع نُشر منذ عام 2021، بدأ بإزالة أجزاء من جبانة السيدة نفيسة، وجبانة السيوطي، ثم منطقة الأباجية حيث ضريح طه حسين»، مضيفةً أنّ الهدم طال مقابر رموز مثل يحيى حقي، كما فُكّت مآذن أثرية في «السيدة عائشة» و«الإمام السيوطي» بزعم ترميمها، لكنها لم تُعد.
وفي محاولة للمواجهة، أسّست القاضي ومجموعة من المختصين مبادرة «إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية»، وأصدروا بياناً أوقف موقتاً عمليات الإزالة، وتم التوافق على مشروع بديل.
لكن ما لبث أن استؤنف الهدم، ما أدى إلى استقالة اللجنة، وتشديد الرقابة على المنطقة، ومنع التصوير، واعتقال بعض النشطاء.
وأكدت القاضي في تصريحات متفرقة لها بأنّ ما يجري «يتجاوز البنية التحتية إلى طمع في القيمة السوقية المرتفعة لأراضي الجبانات»، مشيرة إلى أنّ هذه الرؤية مضمّنة في المخطط الإستراتيجي للقاهرة 2030.
يُعد «المخطط الإستراتيجي للقاهرة 2030» واحداً من أكثر المشاريع الحكومية إثارة للجدل في العقدين الأخيرين، إذ يطمح – على الورق – إلى إعادة تنظيم العاصمة المزدحمة وتوزيع الأنشطة الإدارية والاقتصادية في ضوء ما يُسمى «كفاءة الاستغلال العمراني».
غير أنّ هذا الطموح التنموي كثيراً ما يتخذ شكل قرارات فوقية لا تراعي البُعد التاريخي والثقافي والإنساني للمدينة، بل تسعى إلى هندستها على مقاس الرؤية النيوليبرالية الجديدة، إذ تُختزل القاهرة إلى خرائط مرورية وفراغات عقارية يُعاد تصنيفها بحسب قيمتها السوقية.
بذريعة تفكيك «الاختناقات الحضرية»، يتحول التراث إلى عبء يجب التخلص منه، وتُختزل الذاكرة الجماعية في جدران قابلة للهدم وإعادة التوظيف.
يعتمد المخطط على تدخلات جذرية تشمل فتح محاور جديدة وشبكة كباري سريعة، وتفريغ قلب القاهرة من الأنشطة غير المربحة، بحسب الرؤية الرسمية، بما في ذلك إزالة المقابر والجبانات التاريخية الممتدة في أحياء «البساتين» و«الإمام الشافعي» و«السيدة نفيسة» و «السيوطي».
هذه المساحات، التي طالما مثّلت ركيزة من ركائز الهوية الثقافية والدينية للمدينة، تُعامل اليوم كأراضٍ «متاحة» يجب «إعادة تدويرها» اقتصادياً، ضمن ما تصفه الخطط الحكومية بـ «تحسين جودة الحياة».
لكن هذه الجودة، كما يرى معارضو المشروع، تُقاس بمقاييس مالية بحتة، متجاهلة البُعد الرمزي العميق لهذه المواقع، بما تحمله من فن جنائزي فريد، وشواهد خط عربي، وعمارة جنائزية لا مثيل لها في العالم الإسلامي.
وبدلاً من الاستثمار في ترميم هذه المواقع وتحويلها إلى فضاءات تراثية وسياحية كما تفعل مدن العالم الكبرى، يُمعن المخطط في تقويضها باسم «التطوير»، في تجاهل صارخ لما تمثله من ذاكرة عمرها قرون. في المحصلة، فإنّ «قاهرة 2030» كما يراها المثقفون، ليست مدينة المستقبل بقدر ما هي مدينة بلا ماضٍ، تُمسَح ملامحها القديمة لإفساح المجال أمام نسخة مصقولة من الحاضر، تليق باقتصاد السوق وتخلو من الضجيج… والقبور.
كل ما يجري يطرح أسئلة ملحّة: ما معنى «تطوير» مدينة إذا كان الثمن هو محو ذاكرتها؟ كيف نقرأ تاريخ القاهرة، أو نُبقيه حياً، إذا ما جُرّدت من طبقاتها المادية التي تجسّده؟
أليست الجبانات، بما تحويه من قبور الأولياء والعلماء والكتّاب، جزءاً من السيرة الروحية والثقافية التي صنعت شخصية هذه المدينة الفريدة؟ وهل يمكن الحديث عن «الحداثة» في غياب أي احترام للأثر والرمز والوجدان الجمعي؟
في خضم الاندفاع نحو تحويل كل شبر من القاهرة إلى أصل قابل للاستثمار، تبدو العاصمة كأنها تفقد ليس فقط معمارها التقليدي، بل أيضاً معناها العميق كمدينة تتنفس التاريخ، وتحفظ ملامح مقدسة للزمن.
في مدينةٍ كالقاهرة، ليست القبور مجرد حجارة، بل نقاط إشعاع روحي ومعرفي، ومرايا لقرون من التحول والتراكم الإنساني. وما يحدث اليوم يُشبه عملية تجريف معنوي، تُقصى فيها الروح لمصلحة الخرائط العقارية، وتُختزل فيها الذاكرة في معادلات اقتصاد سوق جاف لا يعرف إلا لغة «العائد» و«الفرصة».