ريما النخل: ثلاثة فنانين من جيل الحداثة، هنيبعل سروجي وفرنسوا سارغولوغو وغريغوري بوشاكجيان، يلتقون في معرض مشترك للمرة الثانية بعد مرور عقد، وتحديداً في صالة «جانين ربيز» المكان نفسه للقائهم الأول.
فرنسوا سارغولوغو «يطلّق» الحنين: تجتمع أساليبهم وتقنياتهم ورؤاهم المتنوعة في مساحة العرض، رسماً وصورةً فوتوغرافيةً وتجريداً. نرى صور فرنسوا سارغولوغو المتحوّلة للطبيعة بألوانٍ مشعّة وناريّة، فالعالم ينقلب معه كتلاً متوهّجة في تجريدية فوتوغرافية تشتغل عليها تقنياته لتُدنيها من اللوحة الزيتية المرسومة لو نُظر إليها من بعيد.
المختلف لديه هذه المرة أنّه يخرج من دائرة الحنين إلى الماضي وإلى بيروت والأماكن نحو منظر طبيعي مضغوط وكثيف تتوسط شجر غاباته الكثيفة كتل شروق وغروب شديدة التوهّج، قوية النور… كأنّها تشقّ في كل لوحة فوتوغرافية عتمة الدغل في اتجاه أفق مشعّ قد يوحي بفجر منبلج أو بأفول حزين، بأمل أو بخيبة. ثمة ما يجذب ويأسر في فوتوغرافيات سارغولوغو، ابن الفنانة الرائدة إيفيت أشقر.
تستوقفنا لنشبع نظرنا من الكثافة والألوان والأنوار المنادية إلى أفق بعيد. تبدو أعماله في المعرض الحالي غريبة تماماً عن تيماته وعوالمه التي اشتهر بها، ودائماً ما تناول فيها جوانب مختلفة من الهوية والمكان (بيروت) والمنفى (يُقيم في فرنسا غالباً). وكانت أعماله تجمع دائماً التصوير الفوتوغرافي والنص والمادة الأرشيفية، مستمدّاً تكويناته من عوالم غريبة من الأساطير والتاريخ الشفوي.
في المعرض الحالي الذي أُعطي عنوان «نهاية الرومانسية»، يتعاون سارغولوغو مع رفيقيه لطمس الحدود بين الوسائط المختلفة للرسم والتصوير الفوتوغرافي والكتابة، عبر إضافة منظور غير متزامن هو منظور الرومانسية، أو بتعبير أدقّ نهاية الرومانسية.
هنيبعل سروجي ينفض أثقال الذاكرة: في المقابل، تختلط رؤى هنيبعل سروجي بين الداخل والخارج، أي بين الذكريات والفضاءات الممتدّة، في تجريدية تهيمن عليها المشحات اللونية التي تمثّل آثار الصراع بين الداخل المغلق والخارج المفتوح على الأمل. تولد اللوحة لديه من إحساس دراميّ يوشّحه اللون ليغدو حالة متفائلة. ينفض بألوانه أثقال الذاكرة، فإذا كانت الحرب اللبنانية الدامية انتهت، يجب بالتالي أن يتغيّر شيء في اللوحة، لإنشاء فسحة تأمّل مريحة ذات دينامية تجريدية ملوّنة تومئ بالمشاعر التي تعتري داخل الفنان أثناء إتمام لوحته.
ثمة ما هو مستلهم في عالمه التشكيلي من جماليات الفن الياباني ذي الطبيعة الخفيفة الحضور، كأنها ظلال وانعكاسات على سطح اللوحة، بغية الخروج من المنطقة القاتمة لذكريات الحرب إلى مساحات الضوء الشفاف وإلى استعادة الحلم والأمل. تتكوّم الخطوط والأشكال في مساحات من الفراغ في لوحات سروجي كأنّها عناصر متناثرة من الطبيعة نقف أمامها في شرود لسبر مكوّنات مشهد طبيعيّ لا يعكّر شيء نقاءه. ينسج هنيبعل لوحته من رؤى متشظية بألوان خافتة ومشحات وخطوط صغيرة متقطعة. فالفنان الذي دفعته الحرب اللبنانية إلى الهجرة للدراسة والعيش بين مونريال وباريس، يستعين بذاكرته وبنشأته بين بيروت وصيدا لتحديد هويته البصرية. لذا تبدو تأملاته صامتة ومكتومة، بمذاقٍ تجريديّ قائم على التكوين اللونيّ الخافت، الصافي، لتبقى اللوحة لديه محتفظة بأسرارها (أسراره) الخاصة.
غريغوري بوشاكجيان: بحثاً عن أشباح بيروت: غريغوري بوشاكجيان، الفنان المفاهيمي والمتعدّد الوسائط بين فوتوغرافيا وفيديو وتجهيز، يقدّم في هذا المعرض المشترك رؤية مفاهيمية بالأبعاد الثلاثة تحتلّ أشكالها الهندسية المتداخلة والمتقاطعة مساحة جدار كامل في الغاليري، غير مبتعد تيماتيّاً عن عوالمه وأعماله السابقة التي غالباً ما اهتمّت بالمكان. حتى إنّ أطروحته الفنية للدكتوراه من السوربون حملت عنوان «المساكن المهجورة: تاريخ بيروت» حتى صارت الأماكن المهجورة عناوين معارضه.
الصور التي يلتقطها بوشاكجيان يُطلق عليها البعض «إباحية الخراب» وهي سمة نموذجية للاستكشاف الحضري. ودائماً كان مشروع الفنان الفوتوغرافي مبنياً على عنصر أساسيّ لمسح بيوت المدينة المهجورة واكتشاف الأرواح التي كانت تستوطنها. صوّر بين عامَي 2009 و 2016 أكثر من سبعمئة مبنى في مناطق متفرقة من بيروت، مؤرشفاً بياناتها موقعاً وزمناً وتفاصيل معمارية، مكتشفاً آثار الأشخاص الذين عاشوا فيها.
لكن هنا في المعرض الحالي المشترك، ينأى قليلاً عن فوتوغرافيا الواقع، ليركّب جداريته «الهندسية» من عناصر مألوفة من رؤيته السابقة لخراب الأمكنة، إنّما بعمل تجهيزي ملصق إلى الجدار وفيه مربعات ومستطيلات وخطوط تتخلّلها ثقوب وندوب كأنّها مخطّط معماريّ لأحد المباني التي طالتها الحرب، غير مفارقة لذاكرة الفنان ومعالجاته وتيماته وهواجسه التي تبدو راسخة ومستمرّة ومستحوذة.
* «نهاية الرومانسية»: حتى 30 أيار (مايو) ــــ غاليري «جانين ربيز» (الروشة ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/868290