الأحد, 18 مايو 2025 01:29 PM

في متاهات العزلة والواقعية السحرية: قراءة في الأسس الفكرية لرواية "مئة عام من العزلة"

في متاهات العزلة والواقعية السحرية: قراءة في الأسس الفكرية لرواية "مئة عام من العزلة"

إبراهيم أبو عواد: تُعتبر رواية "مئة عام من العزلة" (1967) للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014/ نوبل 1982) من أهم الأعمال الأدبية العالمية على الإطلاق، حيث يروي سيرة عائلة بوينديا على مدى عدة أجيال في مدينة خيالية تُدعى ماكوندو. وتعتمد الرواية على أسلوب الواقعية السحرية، حيث يمتزج الواقع بالخيال ضمن إطار أدبي حالم.

تمثل الرواية إعادة تفسير للتاريخ الكولومبي، حيث تطرح أفكارًا جديدة في كيفية تأويل الأحداث اليومية، والوقائع الحياتية، وربط البنى المعيشية الخرافية بالدهشة العقلية والانبهار الوجداني، والهروب من ضغط الواقع المادي إلى صناعة عالم غرائبي قادر على إثارة الأسئلة المصيرية، وتكوين التأملات العميقة. وهكذا يتم تشييد فلسفة الحكايات على الذهول وخلط السحر بالواقع، والانتقال من حلم إلى حلم في فضاءات لغوية، والقلق من خسارة الحلم في ظل التغيرات المتسارعة في الزمان الافتراضي والمكان الخيالي، مما يؤدي إلى نقل الأحكام العقلية والأفعال الاجتماعية من رتابة الحياة اليومية إلى الحقيقة الكامنة في التأمل الروحي والتفسير المادي والتجربة الإنسانية.

إن القضايا المختلطة في التاريخ، والمسائل المتشابكة في الحضارة، تشكل سلطة ذات طبيعة تراتبية على الصعيدين: العائلي والمجتمعي، وتمثل هوية ذات طبيعة مركزية على المستويين: المعنوي والمادي. وهذه الأمور مجتمعة تتجسد في عائلة بوينديا في كل أجيالها، وتفاصيل حياتها، وتحولات أفكارها، ومسارات أحلامها. وهذه العائلة الخيالية المتصورة ذهنيًا وأدبيًا، صنعت أسطورتها الخاصة في اللغة المدهشة الساحرة، والأسلوب المحكم الجذاب. واللغة كمادة خام، والأسلوب كتيار حامل للحكايات المتشعبة، كلاهما يقوم على دقة الوصف والبراعة في اقتناص اللحظة الإبداعية.

والملحمة السردية التي قدمها ماركيز تستند إلى إضفاء السحر على عناصر الواقع، بشكل مستمر ودائم، وصولًا إلى منظومة أدبية خرافية تبتكر الخيال، وتجعله حياة معاشة، مما يؤدي إلى صناعة عالم أسطوري، ينتج الأوهام، ويصدقها، ويدفع القارئ إلى التعامل معها بوصفها حقائق تجسدت يومًا ما على أرض الواقع. وهكذا تصبح الأخيلة حيوات محسوسة، وتصبح الأساطير وقائع ملموسة. وكل هذا من أجل تفكيك هياكل الطبيعة البشرية، وإرجاعها إلى الجذور الفلسفية الأولية، والأنوية التاريخية البدائية، والماضي الذي لا يمضي، والأحلام المقموعة، والذكريات المنسية، والرغبات المكبوتة.

وطرائق السرد المتشعب، والتسلسل الزمني المعقد، وشبكة الشخصيات المتداخلة، هي الأسس الفكرية في الرواية، التي ترتب الفوضى، فوضى المشاعر، وفوضى الصراعات التاريخية، وفوضى الأحلام غير الواقعية، وفوضى خيبات الأمل، وفوضى الأحزان التي تربط الماضي بالحاضر. وكما أن طبيعة الأحكام تحدد ماهية الأفعال، كذلك ترتيب الفوضى في العمل الأدبي يحدد الأدوار الاجتماعية، ويعيد تعريفها إبداعيًا، من أجل كسر العزلة المفروضة على مشاعر الألم، والتمرد على الواقع.

وكما أن الإنسان لا يختار أبويه، كذلك لا يختار الزمان والمكان اللذين يعيش فيهما، وهذا يعكس أهمية الانقلاب على الواقع، وصناعة واقع جديد، عن طريق تفعيل الأحلام، وتجذير الخيال، وبعث السحر في الكلمات والأحداث والمواقف. وهذه هي فلسفة الواقعية السحرية التي انتشرت في أدب أمريكا اللاتينية خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وشكلت الحركة حدثًا أدبيًا هامًا، ونقلة نوعية جديدة في عالم الإبداع الأدبي، وقد قادها كتاب حطموا القواعد التقليدية للكتابة، وامتازوا بالجرأة والزخرفة والتنميق وإطلاق العنان لحرية الخيال، والميل إلى كل ما هو تجريبي وذو طابع سياسي، مثل: غابرييل غارسيا ماركيز من كولومبيا، وماريو فارغاس يوسا من بيرو، وخوليو كورتاثر من الأرجنتين، وكارلوس فوينتس من المكسيك.

ومثلما اخترع الروائي الأمريكي ويليام فوكنر (1897-1962/ نوبل 1949) مدينة جيفرسون الخيالية، للحديث عن مسقط رأسه في الجنوب الأمريكي، ووصف من خلالها توالي الأجيال التي شهدتها، اخترع ماركيز مدينة ماكوندو الخيالية، لتكون شبيهة بمدينة أراكاتاكا، التي ولد فيها في شمال كولومبيا، ليجعل منها صورة لكولومبيا، بل وحتى لدول قارة أمريكا اللاتينية. وهذا يقود إلى موضوع مهم، وهو تأثير فوكنر في ماركيز، فقد صرح به ماركيز علنًا في خطاب قبوله لجائزة نوبل للآداب (1982) بالإشارة إليه قائلًا: ((أستاذي ويليام فوكنر)). ومثلت بعض المفردات والمواضيع في أعمال فوكنر، مثل الغموض والبحر وثقافة الكاريبي والعزلة.

مشاركة المقال: