الخميس, 8 مايو 2025 05:30 PM

طرطوس عبر الخرائط التاريخية: من ألواح الفينيقيين إلى دقة الفرنسيين

طرطوس عبر الخرائط التاريخية: من ألواح الفينيقيين إلى دقة الفرنسيين

إعداد: المحامي هشام عبد الرزاق

على مر التاريخ، ظهرت طرطوس في الخرائط كما تجلت في أعين البحارة ورسامي الجغرافيا ومخططي الرحلات والمستشرقين. في بعض الخرائط أُهملت المدينة، بينما برزت في أخرى كمرسى للسفن، أو كحصن منيع، أو مدينة عسكرية مقابلة لمملكة أرواد.

الفترة الفينيقية: طرطوس غير مرسومة… لكنها موجودة

لم تكن المدينة تُرسم في الخرائط الفينيقية، بل كانت تُعرف بموقعها المقابل لجزيرة أرادوس (أرواد)، وكانت تسمى أنتارادوس، أي "المقابلة لأرواد".

ولأن الفينيقيين لم يتركوا خرائط بحرية مرسومة على ورق، بل ألواحاً نُقشت أو نُقلت شفهياً، فإنّ طرطوس غابت كخرائط مرسومة، لكنها حضرت بوصفها تابعاً لمملكة أرواد ومرفأً حربياً. لم تُعرف بعد خريطة فينيقية توضّح المدينة تحديداً، لكن إشارات إلى مستعمرات أروادية على الشاطئ، في خرائط لاحقة، تؤكد وجود كيان بحريّ في مكانها.

العصر اليوناني والروماني: إشارات دون تفصيل

أقدم حضور لطرطوس ككيان على الخارطة جاء عبر الجغرافيين مثل بطليموس (Ptolemy) في القرن الثاني الميلادي. في خارطته للعالم المعروف (التي نُسخت لاحقاً في خرائط العصور الوسطى)، تظهر أنتارادوس بوصفها مرفأً تابعاً لأرادوس، دون رسم دقيق للكتلة العمرانية أو التحصينات. سُميت أحياناً Antaradus أو Antarados أو Tortosa في مخطوطات لاتينية لاحقة. هذه الفترة شهدت تطور المدينة عمرانياً، كما تشير الحفريات الحديثة، لكن الخرائط لم تواكب هذا التطور بدقّة.

الفترة البيزنطية والصليبية: خرائط دينية وحربية

من القرن العاشر حتى الثالث عشر، تظهر طرطوس بشكل أوضح على خرائط الحجّ وخرائط الحملات الصليبية. بحسب خريطة "بيتروس فيسكونتي" (Pietro Vesconte) – ١٣٢٠م، تظهر طرطوس باسم Tortosa، إلى جانب أرواد وطرابلس وتُرسم كحصن على الساحل، وتُعتمد كـ "نقطة توقف للحجاج المسيحيين" كما تشير إلى تحصين المدينة بوضوح، خصوصاً قرب "الكنيسة الكبرى – الكاتدرائة (متحف طرطوس حالياً)". اما بحسب خرائط "ليبر سيكريتوروم فيديليوم كروسيس" – القرن ١٤، تُظهر طرطوس بوصفها قاعدة صليبية قرب البحر، وتُربط عبر خطوط إلى أنطاكية وقبرص. وصفها المستشرقون حينها بأنها مدينة ذات "حماية مثلثة"، كما في مخططاتها الدفاعية. وقد كتب المستشرق ري لاحقاً: "طرطوس مدينة مرسومة بخوف، لا بشغف. كل خط فيها كان يعني دفاعاً لا زخرفة".

الخرائط العثمانية: غياب التفاصيل وسط الهيمنة الإدارية

في واحدة من أقدم وأجمل الخرائط البحرية العثمانية، خريطة "بيري ريس" – ١٥٢١م، تظهر طرطوس على الساحل، دون كثير من التفاصيل، قرب أرواد. تُذكر باسم "طرطوس" أو "اتُرطوس"، مع رسمة بسيطة لسفينة قرب الساحل. هذه الخريطة هي من النوع الفني الرمزي، وليست خرائط دقيقة بقياس المسافات. لكنها مهمة كدليل على وعي عثماني بوجود مرفأ مهم على الساحل.

الخرائط الفرنسية: الدقة تولد من الرغبة بالسيطرة

في خريطة "جاك نيكولا بيلان" (Jacques-Nicolas Bellin) – ١٧٦٤م، تظهر طرطوس بدقة للمرة الأولى، إلى جانب جزيرة أرواد، مع خطوط الطول والعرض، وتفاصيل الأعماق البحرية. تذكر المدينة باسم Tortose، وتظهر محاطة بتحصينات، ومتصلة بخطوط باتجاه قبرص وطرابلس كما يلاحظ في الخريطة وجود "جزيرتين صغيرتين" جنوب أرواد، يُعتقد أنهما بقايا صخور غارقة أو نتوءات بحرية. أما خرائط بعثة "المسيو بو" الفرنسية – أوائل القرن ٢٠ فهي خرائط تفصيلية أُنجزت في سياق المسح الأثري والعسكري، قبل الانتداب. تُظهر المدينة بوضوح، وتذكر مرفأها وأبنيتها التاريخية. كتب أحد ضباط البحرية الفرنسية في هامش خريطته: "طرطوس مدينة صامتة، لكن صوتها في البحر لا يخطئه بحّار.

في الختام نرى ما بين وصف الفينيقيين ، وتفاصيل بيلان الدقيقة، تمثّلت طرطوس في الخرائط كظلّ تاريخي يتحرك: "مدينة تُهمل أحياناً وتُبرز أحياناً أخرى، لكنها كانت هناك، ثابتة في المكان، متغيّرة في العيون التي رسمتها".

بحث وتدقيق واعداد: المحامي هشام عبد الرزاق.

أي تعليق مسيء أو ذو طابع سياسي أو ديني أو أي إساءة لأي رمز تاريخي أو ديني ورد أم لم يرد في البحث يحظر صاحبه مباشرة من متابعة الصفحة. – صفحة Tartous Madinati صفحة متخصصة (بتاريخ) مدينة طرطوس القديمة فقط، الصفحة مستقلة لا علاقة لها بصفحات أخرى. – حقوق النشر محمية ومحفوظة للصور ولكل المعلومات الواردة للكاتب في هذه الصفحة. – يمكن الاقتباس والنشر مع الإشارة إلى الصفحة ومالكها. – تعتبر المواد والعبارات المنطوقة الواردة تراثاً مادياً نعمل على الحفاظ عليه وتسجيله.

مشاركة المقال: