جنى العيسى | خالد جرعتلي | حسن إبراهيم | أمير حقوق
يمثل إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، حدثًا تاريخيًا ينهي بشكل مباشر أو تدريجي، تلك العقوبات التي بدأت واشنطن بفرضها على دمشق عبر قرارات متعددة منذ 46 عامًا. رفع العقوبات، الذي سعت إليه الإدارة الجديدة لسوريا دبلوماسيًا بكثافة منذ تسلّمها زمام الحكم في سوريا عقب سقوط النظام المخلوع في 8 من كانون الأول 2024، من شأنه أن ينقل البلاد إلى مستويات أفضل بكثير مما تعانيه حاليًا، ليس على صعيد الاقتصاد والمعيشة والإنتاج فقط، إنما قد يبرز الانعكاس السياسي على علاقاتها بالكثير من الدول، ويفتح لها المجال أمام شراكات تغيّر مصيرها.
نتيجة استخدام النظام المخلوع آلته العسكرية ضد الشعب الذي خرج مطالبًا بالحرية عام 2011، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على مؤسسات حكومية، ومنعت التعامل معها، وقد دفع الشعب السوري ثمنًا باهظًا جراء ذلك، إذ تأثّر أضعاف تأثّر النظام وواجهاته وقياداته، وكانت آخر الإحصائيات تشير إلى ارتفاع معدل الفقر من 33% قبل الحرب إلى 90% حاليًا، بينما بلغت نسبة الفقر المدقع 66%. رفع العقوبات في هذا التوقيت من شأنه تحسين الواقع الاقتصادي والخدمي، كما أنه بوابة ستدفع البلاد إلى التغيير الإيجابي، سواء في المستقبل القريب أو على المدى البعيد.
تحاول عنب بلدي في هذا الملف تسليط الضوء على أثر رفع العقوبات عن سوريا، وتحليل الحالة القانونية للعقوبات المفروضة منذ عقود، مع الإشارة إلى الظرف السياسي الجديد الذي قد تعيشه سوريا مستقبلًا في إطار الشروط الأمريكية التي فُرضت مقابل رفع العقوبات.
منظومة معقدة.. الرفع يحتاج أشهرًا
لطالما كانت العقوبات الأمريكية على سوريا من أكثر أدوات الضغط تعقيدًا وتشابكًا واستمرارية في السياسة الخارجية الأمريكية، وتعاظمت عبر السنوات لتصبح آليات هدفها العزل التام للنظام السوري سياسيًا واقتصاديًا، حيث بدأت أولى هذه العقوبات عام 1979 عندما أُدرجت سوريا على قائمة “الدول الراعية للإرهاب”.
زادت العقوبات الأمريكية خلال السنوات، وتنوّعت بين فردية تطال أشخاصًا محددين، وقطاعية تستهدف مجالات مثل النفط والطاقة والبناء، وعقوبات فُرضت عبر قرارات تنفيذية رئاسية وأخرى تشريعية، أبرزها “قانون قيصر” الذي دخل حيّز التنفيذ عام 2020، ووسّع نطاق الاستهداف ليشمل داعمي النظام من أطراف خارجية. ويتّسم ملف العقوبات بتعقيد كبير نتيجة تداخله مع قضايا دولية، منها مكافحة الإرهاب، ومنع انتهاكات حقوق الإنسان، ومنع انتشار الأسلحة النووية والكيميائية، والأمن الإقليمي. ولم تقتصر تأثيراتها على النظام فقط، بل امتدّت لتطال الحياة الاقتصادية والإنسانية اليومية للسوريين.
الإدارة الأمريكية في حيرة
إعلان ترامب رفع العقوبات على سوريا فاجأ مسؤولي العقوبات في وزارتي الخزانة والخارجية الأميركيتين وبعض أفراد إدارته، ووضعهم في حيرة، إذ رأى كبار المسؤولين في الوزارتين أن رفعها سيكون معقّدًا وسيستغرق أشهرًا، وفق ما نقلته “رويترز”.
رفع العقوبات نادرًا ما يكون مباشرًا، وغالبًا ما يتطلّب التنسيق الوثيق بين العديد من الوكالات الأمريكية المختلفة والكونغرس. ويشكّل الأمر تحدّيًا خاصًا في حالة سوريا، نظرًا لمستويات التدابير المتعدّدة التي تعزلها عن النظام المصرفي الدولي وتمنع العديد من الواردات الدولية.
إدوارد فيشمان، المسؤول الأمريكي السابق ومؤلف كتاب “نقاط الاختناق”، قال لـ”رويترز” إن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، والتي فُرضت بموجب مزيج من الأوامر التنفيذية والقوانين، قد يستغرق شهورًا. ومع ذلك، أشار إلى أن وزارة الخزانة الأمريكية لديها خبرة سابقة في تخفيف العقوبات على إيران بموجب الاتفاق النووي عام 2015.
ما يزيد المهمة تعقيدًا هو العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”، إذ يتطلّب إلغاء مشروع القانون إجراءً من الكونغرس، لكنه يتضمّن بندًا يسمح للرئيس بتعليق العقوبات لأسباب تتعلق بالأمن القومي. كما يمكن لترامب إصدار ترخيص عام بتعليق بعض العقوبات أو كلها، وفق “رويترز”.
وقال فيشمان إنه سيتفاجأ إذا تم رفع كل العقوبات كجزء من أمر ترامب، مضيفًا أن بعض الأشخاص أو الكيانات المحددة في سوريا التي فُرضت عليها عقوبات لأسباب تتعلّق بسلوك محدد، مثل دعم جماعة إرهابية، قد لا يتم إزالتها من قائمة العقوبات.
عقوبات رئاسية وتشريعية واستنادًا لحالات طوارئ
مصدر مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية قال لعنب بلدي، عبر مراسلة إلكترونية، إن الولايات المتحدة لا تزال تراقب استجابة دمشق للتدابير المحددة والمفصلة التي طرحتها واشنطن سابقًا، مضيفًا أن تخفيف العقوبات يهدف إلى تحقيق الاستقرار في سوريا ودفعها نحو السلام.
وذكر أن الولايات المتحدة اتخذت بالفعل الخطوات الأولى نحو استعادة العلاقات الطبيعية مع سوريا، من خلال اجتماعها مع “السلطات المؤقتة”. وأضاف أنه لا توجد معلومات لمعاينتها حاليًا في هذه المرحلة فيما يتعلق بالجدول الزمني لبدء رفع العقوبات.
وقال المسؤول، “لقد طلبنا من السلطات السورية المؤقتة اتخاذ تدابير محددة ومفصلة لبناء الثقة. ونواصل تقييم استجابتها”.
الدبلوماسي السوري السابق بسام بربندي ذكر أن العقوبات الأمريكية على سوريا متنوعة، منها رئاسية (تصدر بقرار من الرئيس الأمريكي)، عددها ثمانية أوامر تنفيذية رئيسية أصدرها رؤساء الولايات المتحدة لفرض عقوبات على سوريا، بدءًا من عام 2004 وحتى عام 2019.
وتشمل العقوبات الرئاسية معظم العقوبات على الاقتصاد السوري، وتُفرض عبر “أوامر تنفيذية”، ويمكن للرئيس ترامب أن يلغي أو يجمّد هذه العقوبات فورًا، دون الحاجة للرجوع إلى الكونغرس، وفق ما نشره بربندي.
وأضاف أن هناك عقوبات تشريعية وهي قوانين أصدرها الكونغرس مثل “قانون قيصر”، وهي أكثر تعقيدًا، لأنه لا يمكن للرئيس وحده إلغاؤها، ويتطلّب رفعها أن تثبت الإدارة الأمريكية للكونغرس أن سوريا حققت الشروط الموجودة في القانون نفسه.
ولفت بربندي إلى أن العديد من العقوبات تستند إلى “حالة طوارئ وطنية” يتم تجديدها سنويًا، وإذا لم يُجدّدها الرئيس، تُعلّق بعض العقوبات بعد ستة أشهر، وهنا يمكن تخفيف العبء الاقتصادي جزئيًا، حتى لو لم يتم إلغاء القانون نفسه.
وبحسب بربندي، يمكن لترامب أن يُلغي الأوامر التنفيذية التي فرضت عقوبات اقتصادية، ويصدر تراخيص استثنائية لتسهيل التحويلات أو الاستيراد، ويُعدّل بعض الفقرات حتى لا يشمل رفع العقوبات الأشخاص والشركات المتهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ويُعلّق تطبيق العقوبات في حال لم يُجدّد حالة الطوارئ.
ولن يستطيع الرئيس الأمريكي رفع العقوبات المرتبطة بـ”قانون قيصر” إلا إذا تحقّقت الشروط التي يطلبها الكونغرس، لكنه يستطيع إلغاء بعض المواد فيه، وفق بربندي.
“رفع تدريجي” مرهون بالتجاوب السوري
المستشار السابق في وزارة الخارجية الأمريكية، حازم الغبرا، قال لعنب بلدي إن ملف العقوبات معقد، ورفعها يستغرق وقتًا، لافتًا إلى أن الرفع سيكون بشكل تدريجي ومجدول وتعاظمي.
الأدوات بيد الرئيس ترامب والحكومة الأمريكية اليوم هي “الترخيص”، وهو أسلوب لتعطيل العقوبات عبر السماح لشركات بالعمل في قطاعات سورية خاضعة للعقوبات.
وأضاف الغبرا أن جزءًا كبيرًا من هذه العقوبات مشمول بقوانين، بعضها يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، وهناك ضرورة للعمل نحو إصدار قوانين جديدة، وهذا يستغرق وقتًا ومباحثات في أروقة الإدارة الأمريكية، وما سيفعله ترامب هو العمل على تعطيل العقوبات حتى يتم رفعها بشكل قانوني ورسمي مستقبلًا.
وتابع الغبرا أن الأمر مرهون بالتجاوب وقدرة الحكومة السورية على الالتزام بالخطوط العريضة، على الأقل، التي اتفق عليها الطرفان في المرحلة القادمة، وعبر العمل مع السعودية وتركيا، وهما بمثابة الدول المساعدة التي ستحاول العمل مع الحكومة السورية لمساعدتها على الوصول إلى مرحلة متقدمة، بعيدًا عن العودة إلى العقوبات.
ولفت الغبرا إلى أن التفكير اليوم في واشنطن هو أن يكون هناك ترخيص لمدة عامين، مع مراجعته كل ستة أشهر، ويتم تعديله حسب الحاجة، بينما يتم العمل مع الكونغرس الأمريكي لرفع العقوبات بشكل رسمي عبر قانون.
سنرى الكثير من الحراك اليوم بعد الضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس ترامب للحكومة السورية الجديدة، لكن الأمر ليس ببساطة المنتهي، فهناك مراجعة مستمرة، ونقاط مطلوبة من الحكومة السورية في عدة مجالات.
تقارب مشروط.. المكاسب في أي سلّة
يتفق على أن إعلان ترامب حول رفع العقوبات جاء مشروطًا، وكانت واشنطن واضحة في هذا السياق، إذ طالبت الأخيرة دمشق بعدة قضايا سياسية، إلا أن التساؤلات تدور في فلك قدرة سوريا على التفاوض في ظل هذه الشروط.
جاءت تغريدة مساعدة الرئيس والسكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، كارولين ليفيت، موضحةً لما عقب اجتماع الرئيس دونالد ترامب والرئيس السوري في المرحلة المؤقتة، أحمد الشرع، إذ أوضحت كواليسه، وشددت على شروط طرحتها الولايات المتحدة مقابل تطبيع العلاقات مع دمشق.
وقالت ليفيت، التي كانت ترافق ترامب في السعودية، عبر “إكس”، وعقب الاجتماع مباشرة، إن الرئيس ترامب شجع الرئيس الشرع على خمس قضايا رئيسة هي:
- التوقيع على اتفاقيات “أبراهام” مع إسرائيل.
- الطلب من جميع “الإرهابيين” الأجانب مغادرة سوريا.
- ترحيل “الإرهابيين” الفلسطينيين.
- مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
- تحمل مسؤولية مراكز احتجاز عناصر تنظيم “الدولة” في شمال شرقي سوريا.
ولم يخرج ما نقلته ليفيت عن ترامب عن إطار الشروط التي خرجت من الولايات المتحدة باتجاه سوريا منذ سقوط الأسد، لكن اللقاء بين الرئيسين عكس إصرار واشنطن عليها وقبول دمشق لها.
سوريا “بموقع قوة”
منذ سقوط النظام، كان رفع العقوبات المطلب الأول والأساسي للدبلوماسية السورية، وشهدت سوريا احتفالات واسعة النطاق بعد إعلان ترامب برفعها، ومنح سوريا “فرصة جديدة”.
المقابل الذي طرحته واشنطن اعتبره الخبير في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مايكل أريزانتي، أنها وضعت سوريا في موقع قوي للتقدم، لافتًا إلى أن الأطراف المحيطة بسوريا صارت اليوم هي من يحتاج إلى إثبات استعدادها للسلام، وخفض التصعيد، وإعادة الاندماج الإقليمي، في إشارة إلى إسرائيل.
وأضاف أريزانتي لعنب بلدي أن إدارة الشرع أظهرت اهتمامًا واضحًا بالتطبيع، بل وحتى الانضمام إلى اتفاقيات “أبراهام”، واصفًا ذلك بـ”التحول الكبير والشجاع” بالنظر إلى التاريخ.
ولفت إلى أن المشكلة ليست في دمشق، بل في المناخ السياسي في إسرائيل، معتبرًا أن دوافع قيادة نتنياهو مبنية على تطلبات الأمن والبقاء السياسي الداخلي، وليس باهتمام حقيقي بسلام طويل الأمد.
الخبير اعتبر أنه من المرجح أن تطلب إسرائيل “شروطًا مسبقة متطرفة”، مثل التماهي الكامل مع سياساتها تجاه إيران والسيطرة الدائمة على مرتفعات الجولان.
ورجّح أن تنظر سوريا لهذه المطالب على أنها تتجاهل السيادة السورية وتجعل من التطبيع الحقيقي أمرًا أكثر صعوبة، في وقت تمد سوريا فيه يدها.
طرد الأجانب
شكل طرد المقاتلين الأجانب من سوريا ثاني الشروط الأمريكية، وشمل الجهاديين ممن قاتلوا في فصائل المعارضة، وفصائل فلسطينية كان يدعمها النظام المخلوع على مدار خمسة عقود.
الخبير أريزانتي اعتبر أن هذه الخطوة تصب في مصلحة سوريا، مشيرًا إلى أن لدى الحكومة الجديدة كل الحوافز لـ”تنظيف البيت”، خصوصًا فيما يتعلق بالجماعات الجهادية المعترف بها دوليًا مثل تنظيم “الدولة” وتنظيم “القاعدة”.
ولفت إلى أن خطوة من هذا النوع تعزز الشرعية، وتقرب البلاد من تخفيف العقوبات، وتزيد من الثقة الإقليمية، لكن التحدي يكمن في القيام بذلك دون زعزعة الاستقرار المحلي.
وبالنظر إلى المشهد العام، اعتبر الخبير أن لا أحد لديه ما يكسبه من إزالة هذه العناصر أكثر من سوريا نفسها، وهو أبرز المكاسب الاستراتيجية لدمشق إن تحقق.
القيادة الجديدة تسعى إلى النأي بنفسها عن ذلك الإرث، وترحيل المسلحين الذين يخضعون لطهران أو يسعون لزعزعة استقرار سوريا يعزز موقف دمشق. إنها خطوة ذكية ومنخفضة التكلفة تُضعف النفوذ الإيراني وتطمئن الجيران المتشككين، وعلى عكس المطالب الأخرى، فإن هذه الخطوة تتماشى تمامًا مع أهداف سوريا الأمنية والدبلوماسية، كما أنها قيد التنفيذ بالفعل، وهي من أسهل المكاسب في هذا الإطار كله، بحسب ما يرى أريزانتي.
منع عودة تنظيم “الدولة”
تزامنًا مع التطورات السياسية القادمة من سوريا، يلوّح تنظيم “الدولة الإسلامية” بخلايا الاغتيال والاستهداف والعبوات الناسفة من الشرق السوري، ويكثّف عملياتها رغم أنشطة التحالف الدولي وضده في المنطقة، وسط تحذيرات رسمية وأممية من عودة تنامي نشاط التنظيم الذي يحاول استعادة قوته على الدوام.
الخبير أريزانتي اعتبر أن تنظيم “الدولة” يجعل الأمور “أكثر تعقيدًا”، مضيفًا أنه يجب على صانعي السياسات في الغرب أن يكونوا صادقين مع أنفسهم فيما يتعلق بهذه الخطوة.
وقال لعنب بلدي، إن سوريا تتعاون بالفعل مع الأردن وتركيا لتأمين حدودها ومواجهة تهديدات التنظيم. لكن مشكلة “الفيل في الغرفة” (عالقة) هي “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة أمريكيًا، والتي تحاول الحكومة السورية دمجها بقواتها لإنهاء حالة تفردها بالسيطرة على المنطقة، معتبرًا أنها صارت كيانًا “شبه مستقل” ومدعومًا من الخارج، ويتحكم بجزء من الأراضي السورية.
أصبحت قوات سوريا الديمقراطية كيانًا شبه مستقل مدعومًا من الخارج يعمل داخل الأراضي السورية، ولا يمكنها البقاء كسلطة موازية، وإذا كان من المتوقع أن تقود سوريا حملة وطنية ضد داعش، على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يتوقفوا عن التظاهر بأن نموذج قسد مستدام.
خطوات تخفي شروطًا
رسم اللقاء التاريخي بين الرئيس السوري أحمد الشرع ودونالد ترامب معالم جديدة للعلاقات السورية-الأمريكية، بشكل يتجاوز مجرد إعادة الاتصالات الدبلوماسية، لتُفتح أمامها ملفات شائكة تتعلق بخطوات ذكرتها واشنطن، وأخرى لم يعلن عنها رسميًا.
واعتبرت الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، إيفا كولوريوتيس، لعنب بلدي، أن شروط واشنطن أكثر مما ذُكر عن لقاء ترامب-الشرع، إذ بدأت أمريكا مبكرًا بإرسال رسائل تعاون، وشرعت سوريا بالتنفيذ فورًا.
وقالت كولوريوتيس إن الشروط الأمريكية لا تقتصر فقط على تلك الخمس، بل تُضاف إليها ملفات أخرى تعاملت معها الإدارة السورية الجديدة وبدأت بتنفيذها، من أبرزها:
- إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا.
- محاربة شبكات إنتاج وتصدير الكبتاغون.
- منع إيصال السلاح إلى حزب الله اللبناني.
- ملف الأمريكيين المفقودين، وخاصة الصحفي أوستن تايس، حيث باشرت فرق أمريكية-قطرية عمليات البحث.
وأضافت الخبيرة أن سوريا قادرة فعلًا على تنفيذ شروط واشنطن بدعم عربي ودولي، معتبرة أنه من المهم إتمام انسحاب الولايات المتحدة من شرق الفرات لتمكين دمشق من السيطرة الكاملة على سجون تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وفيما يتعلق بالفصائل الفلسطينية، لفتت كولوريوتيس إلى أن “الجبهة الشعبية – القيادة العامة” قد جُمّدت نشاطاتها وغادر جزء من قيادتها إلى لبنان، فيما تجري ترتيبات لنقل قيادة “حركة الجهاد الإسلامي” إلى إيران والعراق.
الاستقرار مشروط بالتشاركية
منذ سقوط النظام، تمسّكت واشنطن بثمانية شروط، جاء خمسة منها في لقاء ترامب-الشرع، لكن ثلاثة أخرى لم تذكرها مساعدة الرئيس الأمريكي، كارولين ليفيت، منها حماية حقوق الأقليات في البلاد، وتشكيل حكومة تمثيلية.
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” معن طلاع، اعتبر من جانبه أن إدارة الملفات الداخلية هي التحدي الأكبر، رغم نجاح سوريا في إعادة تموضعها خارجيًا.
وأضاف لعنب بلدي أن سوريا وجّهت منذ اللحظة الأولى رسائل واضحة بأنها لن تكون ساحة صراعات إقليمية، بل طرفًا فاعلًا في الاستقرار المحلي، عبر العودة إلى محيطها العربي، بما يعكس هويتها الإسلامية والعربية.
وفي الوقت نفسه، حذّر طلاع من تعقيدات المشهد الداخلي، قائلاً إن “التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تتطلب عقدًا اجتماعيًا جديدًا، وحوارًا وطنيًا شاملًا، وبرامج لإعادة اللاجئين، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإعادة الإعمار، وكلها تحتاج إلى بنية قانونية ومحلية متماسكة”.
ويرى أن “نجاح سوريا في مواجهة التحديات لا يكون من خلال الدولة فقط، بل بانخراط المجتمع في اتخاذ القرار ومراقبته وتنفيذه”، مضيفًا أن “التشاركية، لا المحاصصة، هي الضمان لبناء الدولة”.
وفيما يخص العلاقات الدولية، اعتبر طلاع أن أي انفتاح دولي يُبنى على الاستقرار سينعكس إيجابًا على سوريا، مستبعدًا أن تُنهي هذه الانفراجات التعديات الإسرائيلية على المدى القريب، لكنه يعتبرها مدخلًا لتعزيز وحدة القرار العربي، ما قد يردع بعض تلك التدخلات مستقبلًا.
وأضاف أن سوريا اليوم تقف أمام مرحلة عنوانها “تراكم الثقة”، لا الحسم، وفكرة السلام في الإقليم تتطلب مناخًا داخليًا متماسكًا، تنطلق منه القرارات الخارجية، وفق تعبيره.
التعافي الاقتصادي مبشر.. ينتظر خطوات
على خلاف تعقيدات المشهد السياسي، يطل الملف الاقتصادي واضحًا عقب رفع العقوبات عن سوريا التي تعاني شحًا اليوم في مختلف الاستثمارات، ما يجعلها هدفًا جذابًا كانت العقوبات تقف بوجهه.
عودة التعامل التجاري والاقتصادي الخارجي مع المؤسسات الرسمية أو عبر الأفراد من شأنها تنشيط دورة الحياة الاقتصادية التي كانت تلفظ آخر أنفاسها منذ سنوات.
الباحث الاقتصادي ملهم الجزماتي أوضح أنه على المدى القصير لن يكون هناك تأثير كبير لرفع العقوبات، حتى تتضح الإجراءات التنفيذية للآلية القانونية لرفعها.
المستشار التنفيذي لشؤون التخطيط والمتابعة لدى وزارة الاقتصاد والصناعة السورية، الدكتور رازي محي الدين، قال لعنب بلدي إن الآثار الإيجابية المتوقعة لرفع العقوبات عن سوريا تبقى مرهونة بمدى تفاعل جميع مكونات المجتمع السوري من حكومة، وقطاع خاص، ومجتمع مدني، ونخب فكرية واقتصادية، في تنفيذ برامج التعافي والتنمية، فكلما كان الأداء متناغمًا ومتكاملًا، وكلما تم تعزيز الشراكة بين هذه المكونات في صياغة وتنفيذ السياسات، كانت النتائج الإيجابية أسرع وأكثر استدامة.
وأما على صعيد التوقعات، يرى الدكتور رازي محي الدين أنه على المدى القريب (6-12 شهرًا) من المتوقع:
- تحسّن السيولة، ومع تحرير القيود المصرفية يمكّن المصارف المحلية من إجراء الحوالات واستيراد المواد الأولية والأدوية بسهولة أكبر، ما يخفف ضغوط نقص السلع الأساسية.
- انخفاض تكاليف التمويل: رفع العقوبات يقلل من غرامات ورسوم المصارف المراسلة، فينعكس ذلك على أسعار الفائدة ويحفز الإقراض للقطاع الخاص.
- إنعاش التبادل التجاري: استئناف العلاقات المصرفية الدولية يسرّع استيراد وتصدير السلع، ما ينعش بعض القطاعات الإنتاجية بسرعة.
أما على المدى المتوسط (1–5 سنوات) فمن المفترض ملاحظة تحسن كبير في عدة نقاط أبرزها:
- جذب الاستثمار الأجنبي المباشر: ثقة المستثمرين سترتفع مع انفتاح البلاد مصرفيًا وتجاريًا، وستتدفق رؤوس الأموال على قطاعات البنية التحتية والصناعة والسياحة.
- تنويع الاقتصاد: حرية الوصول إلى الأسواق العالمية تشجع على تطوير قطاعات جديدة (خدمات لوجستية، تكنولوجيا معلومات، زراعة متقدمة) بدل الاعتماد على استيراد المواد الاستهلاكية.
- استدامة النمو وخلق فرص العمل: مع تحسّن المناخ الاقتصادي وتوسّع الأنشطة التجارية، سيزداد الطلب على العمالة المحلية وتقل معدلات البطالة.
رغم ما يحمله رفع العقوبات من فرص اقتصادية واعدة، إلا أن الانفتاح السريع وغير المنضبط على الأسواق العالمية قد يشكل تحديات حقيقية، خصوصًا على القطاع الصناعي المحلي، وبالأخص الصناعات الصغيرة والمتوسطة التي لا تزال تعاني من ضعف البنية التحتية، وغياب الحماية والدعم الكافي.
فمن دون سياسات حكومية رشيدة تحمي هذه الصناعات من الإغراق والمنافسة غير العادلة، قد نجد أنفسنا أمام موجة من الإغلاق وخسارة آلاف فرص العمل، مما يعاكس أهداف التنمية والتعافي.
“التدرج في الانفتاح، وربطه بخطط إصلاح صناعي وتحديث الإنتاج المحلي، أمر ضروري لتحقيق التوازن بين الاستفادة من الفرص وتجنب المخاطر المحتملة.”
صناعيون متفائلون.. إجراءات واجبة
يُعدّ القطاع الصناعي من أبرز القطاعات المتأثرة سلبًا بالعقوبات الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بغياب القدرة على استيراد المواد الأولية، وارتفاع التكاليف الإنتاجية، وتراجع التصدير بنِسَب كبيرة، إذ انعدمت الأسواق التصريفية للمنتجات الصناعية.
ويمثّل القطاع الصناعي أحد أعمدة الاقتصاد السوري، وأهم ركائزه، وبالتالي فإن رفع العقوبات سيشكّل نقطة حاسمة في إعادة عجلة الصناعة السورية، وفي مساهمتها في تعافي الاقتصاد الوطني.
رئيس لجنة العرقوب الصناعية، ونائب رئيس لجنة القطاع الهندسي في غرفة صناعة حلب، تيسير دركلت، قال لعنب بلدي إن قرار رفع العقوبات عن سوريا سينعكس إيجابًا على المنحى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وخاصة الصناعة كقطاع اقتصادي، كون العقوبات كانت جائرة بحق الإنتاج الصناعي.
وتأثير رفع العقوبات على القطاع الصناعي يتمثّل بداية في مدخلات الإنتاج، إذ ستتوفّر المواد الأولية لبعض الصناعات، والتي كان يُمنع استيرادها من دول معينة، مضيفًا أن ملف تصدير المنتجات الصناعية السورية سينتعش، ويفتح أسواقًا لتصريفها، وأيضًا ستتولّد حرية نقل الأموال للصناعيين.
فرصة حيوية
عضو غرفة صناعة دمشق وريفها، طلال قلعجي، قال لعنب بلدي إن العقوبات، على مدى عقود، كبّلت الصناعة، مما اضطر الصناعي السوري إلى إبداع طرق للاستمرار في الإنتاج والصناعة، رغم كل القوانين الجائرة التي كانت تصدر عن النظام البائد، وتزيد المعوقات، وتحاصر الصناعيين أكثر.
وأكد قلعجي أن رفع العقوبات عن سوريا سيُعيدها إلى النظامين المالي والتجاري العالميين، وهذا ما يُمكّنها من التواصل مع الأسواق الخارجية، وفتح أسواق جديدة للصناعة السورية، إضافة إلى انخفاض تكاليف الإنتاج، وتحسين جودة الصناعة من خلال استيراد المواد الأولية بيسر وسهولة من أي دولة في العالم.
واعتبر الصناعي أن رفع العقوبات فرصة حيوية للتعافي الاقتصادي الصناعي السوري، وفتح مرحلة حقيقية لإعادة الإعمار، الأمر الذي يتطلب رفع القدرة الإنتاجية الصناعية لتغطية الطلب الكبير الذي سينتج عن هذه المرحلة.
إجراءات واجبة
يتفق الصناعيون على أنه يجب على الحكومة استغلال قرار رفع العقوبات، وتحسين قطاع الصناعة، وتذليل العقبات التي تحدّ من القدرة الإنتاجية.
تيسير دركلت أشار إلى أهمية دراسة انخفاض تكاليف الإنتاج، وتعديل بعض القوانين التي كانت تحدّ من قدرة الصناعيين، بدءًا من أسعار المحروقات، كما أن النظام الضريبي يتوجّب أن يكون عادلًا ومنصفًا للصناعيين.
بدوره، يرى الصناعي طلال قلعجي أن الصناعة السورية ستنتقل من مرحلة صعبة إلى مرحلة يستطيع فيها الصناعي تأمين مدخلات صناعته، وتطويرها تكنولوجيًا وإنتاجيًا وترويجيًا، إضافة إلى قدرة الحكومة السورية على تأمين حوامل الطاقة للصناعة.
كما سيُتيح زيادة الطلب على المنتجات زيادة الإنتاج، وبالتالي رفع القيمة المضافة للمنتج والناتج المحلي، مشيرًا إلى إمكانية عودة انتعاش صناعات مهمة وثقيلة، كإنتاج الطاقة (النفط والغاز)، والصناعات الثقيلة التي تعتمد على الطاقة، كالحديد والإسمنت وغيرها.
ووفق قلعجي، تركّز غرفة صناعة دمشق في هذا الوقت على النهوض بالصناعة السورية بكل قطاعاتها: الكيميائية، والنسيجية، والغذائية، والهندسية، وتعزيز تنافسيتها محليًا ودوليًا، من خلال دراسات يُعدّها مستشارون مختصون، عبر لقاءات شاملة مع الصناعيين، لدراسة الصعوبات والمعوقات.
تتطلع الغرفة إلى العمل على وضع استراتيجية طويلة الأمد، تشمل تحليل نقاط القوة والضعف في القطاع الصناعي، إضافة إلى وضع المقترحات التي ستُقدَّم للحكومة، لتعديل القوانين الناظمة للعمل الصناعي وقطاع الأعمال، في سبيل خلق بيئة استثمارية صناعية، وتشجيع التصدير، وتخفيض كُلَف الإنتاج، حسب ما ختم به قلعجي.