الإثنين, 19 مايو 2025 05:13 PM

إصلاح القطاع المصرفي السوري: رؤى وخبرات نحو مستقبل مالي واعد

إصلاح القطاع المصرفي السوري: رؤى وخبرات نحو مستقبل مالي واعد

يرى المصرفي الاستشاري آلان خضركي أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي السوري لا يمكن أن تبدأ من الخارج أو بالمجرد التقني، بل تنطلق أولًا من الداخل المؤسسي نفسه، من خلال تغيير مجالس الإدارات والإدارات التنفيذية في المصارف، واعتماد كفاءات وطنية مؤهلة بدلًا من الاعتماد الطويل على كوادر غير سورية، خاصة من لبنان والأردن. هذه الكوادر، بحسب خضركي، “استغلت مواقعها لسنوات للحصول على رواتب مرتفعة دون أن تلتزم بتأهيل كوادر سورية حقيقية، بل عملت على تهميشها لضمان استمرار امتيازاتها”.

الاعتماد على الخبرات الوطنية هو الحل

وفي إطار رؤيته الإصلاحية، يشدد خضركي خلال حديثه لمنصة على ضرورة إنشاء مركز وطني لتأهيل الكوادر المصرفية، يمنح شهادات مهنية دولية، خاصة في مجالات مكافحة الجرائم المالية، والامتثال للمعايير الدولية، وتحديث التشريعات، مع تعزيز الأمن السيبراني الذي يعاني حالياً من هشاشة خطيرة. واعتبر أن الأنظمة التقنية المستوردة من شركات أردنية ولبنانية لم تراعِ حتى الحد الأدنى من معايير حماية بيانات المودعين، ما يفرض وضع معايير وطنية دقيقة لاختيار الأنظمة المصرفية، تحت إشراف خبرات سورية فقط.

رؤية لمستقبل أفضل

تتوافق هذه الرؤية التحذيرية الواقعية مع ما أعلنه حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، الذي أكد في مقابلة مع قناة “الحدث” أن رفع العقوبات الأمريكية سيفتح الباب أمام إصلاح شامل للقطاع المصرفي، بما في ذلك تفعيل نظام التحويلات الدولية “سويفت” وربط المصارف السورية مجددًا بالنظام المالي العالمي. ولفت إلى أن المصرف المركزي بدأ خطوات عملية في هذا الاتجاه، مشيرًا إلى أن أكثر من 50 بنكًا عربيًا ودوليًا أبدى اهتمامه بفتح فروع له في سوريا، حتى قبل إعلان رفع العقوبات، فضلًا عن مفاوضات مع أحد البنوك الفرنسية للاستثمار المباشر في السوق المصرفية السورية. لكن حصرية لم يُخفِ صعوبة الواقع، حيث أشار إلى أن رأس المال الحالي للقطاع المصرفي لا يلبّي متطلبات الاستثمار الدولي، وأن رفع العقوبات سيمكّن من إعادة رسمَلة البنوك، واستقطاب ودائع المغتربين، وإنعاش الثقة المتآكلة، إضافة إلى استعادة الاحتياطي النقدي وإيداعه في مصارف خارجية، ما يخفف من الضغط على النقد داخل البلاد، ويتيح تحقيق أرباح على الودائع. وتوقع حصرية أن تبدأ نتائج هذا الانفتاح المالي بالظهور خلال فترة تتراوح بين ستة أشهر وسنة، مشددًا على أن المصرف يعمل وفق معايير الشفافية والاندماج مع النظام المالي العالمي. وعبّر عن الطموح للانتقال من “اقتصاد إنساني” فُرض بفعل العقوبات إلى “اقتصاد مالي” ثم “اقتصاد ناشئ”.

واقع مصرفي معقد وهش

رئيس أحد المصارف الخاصة العاملة في سوريا، وفي حديث لمنصة ، كشف أن الواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو في التصريحات الرسمية. فبحسب قوله، هناك كوادر مصرفية تعمل منذ 13 سنة ولا تعرف كيف تنفذ عمليات “سويفت”، وأن الاعتماد المستندي لم يُفعّل في سوريا منذ أكثر من 14 عامًا. وأوضح أن الضرر من العقوبات لم يكن موزعًا بالتساوي، إذ لا تزال بعض البنوك الخاصة والأجنبية تحت طائلة العقوبات، فيما لا يتعدى عدد البنوك القادرة على تطبيق المعايير المصرفية الدولية اليوم ثلاثة بنوك خاصة ومصرفين حكوميين.

إصلاح القطاع المصرفي ضرورة

في ضوء هذه التحديات، يشير آلان خضركي إلى أن إصلاح القطاع المصرفي يجب أن يتضمن تحولات رقمية شاملة، تبدأ بتطبيقات ذكية للبنوك، مرورًا بتفعيل خدمات الإنترنت والتوقيع الرقمي، وليس انتهاءً بتطوير بوابات الدفع، وتعزيز قبول أدوات الدفع الإلكتروني محليًا ودوليًا، بما يشمل Visa وMastercard، Apple Pay وGoogle Pay. كما يضيف أن البنوك السورية بحاجة ماسّة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة العمليات المشبوهة، وتحديث البنية القانونية بما يواكب معايير مجموعة العمل المالي (FATF). أما من حيث البيئة التقنية، فإن خضركي لا يثق – كما صرح – بأي حلول تقنية مصدرها شركات أجنبية لا تمتلك سجلًا موثوقًا في حماية البيانات، معتبرًا أن البنية التحتية التقنية لا يجب أن تُبنى إلا على أسس وطنية تراعي الأمن السيبراني بشكل صارم. ويشدد على أهمية تصميم البرامج التدريبية بالشراكة مع مؤسسات مالية دولية محترفة، لكن تحت إشراف وإدارة كفاءات سورية.

المصارف السورية تاريخياً

ورغم التحديات، فإن القطاع المصرفي السوري لا ينطلق من العدم. فسوريا كانت من أوائل الدول في المنطقة التي دخلت العصر المصرفي، منذ تأسيس المصرف الإمبراطوري العثماني في عام 1856، الذي تطوّر لاحقًا إلى “مصرف سوريا ولبنان الكبير”. واستمر هذا النشاط حتى خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت البلاد تزخر بمصارف أوروبية وعربية وسورية، بلغ عددها الإجمالي أكثر من 20 مصرفًا نشطًا. لكن هذا الزخم المالي سرعان ما تراجع بعد الوحدة السورية-المصرية (1958–1961)، لتأتي بعد ذلك عملية التأميم الشامل عام 1963 في عهد حزب البعث، التي ألغت التعددية المصرفية وأخضعت القطاع بالكامل لسيطرة الدولة. وعلى مدى حكم عائلة الأسد بين 1970 و2024، بقيت المصارف الحكومية تعمل ضمن منظومة إدارية ثقيلة، بفاعلية محدودة، رغم بعض محاولات التحديث. أما البنوك الخاصة، التي أُنشئت رسميًا منذ عام 2004، فقد نجحت نسبيًا في تحقيق مرونة أكبر، وساهمت في نمو الناتج المحلي الإجمالي. اليوم، يضم القطاع المصرفي السوري ستة مصارف حكومية، أبرزها المصرف الزراعي التعاوني الذي تأسس عام 1888، إلى جانب أحد عشر مصرفًا خاصًا وأربعة مصارف إسلامية نشأت بين عامي 2004 و2023. ورغم هذه البنية المتنوعة، إلا أن فعاليتها تبقى مرهونة بتوفر بيئة تنظيمية شفافة، وكوادر مؤهلة، ونظم تقنية آمنة، وارتباط فعلي بالأسواق والمؤسسات المالية الدولية. ومع فتح الأبواب مجددًا أمام سوريا للعودة إلى النظام المالي العالمي، يبقى السؤال المركزي: هل تنجح البلاد في استثمار هذه الفرصة التاريخية لبناء قطاع مصرفي حديث يعكس طموحات السوريين، أم تتكرر سيناريوهات التجميل المؤقت؟ الجواب مرهون بالإرادة، والحوكمة، والانحياز للكفاءة الوطنية لا غير.

مشاركة المقال: