جاء الإعلان عن وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة واليمن، ليؤكّد الاعتراف الأميركي بالفشل في تحقيق الأهداف المعلنة للحملة الجوية الأميركية، والتي تمثّلت في تقويض قدرات حركة “أنصار الله” باعتبارها تهديداً لأمن البحر الأحمر وأمن إسرائيل. كما أكّد الإعلان استمرار الارتجال في اتخاذ القرار، من دون تنسيق مع الحلفاء البريطانيين والإسرائيليين، تماماً كما حصل حين الإعلان عن بدء الضربات الجوية في منتصف آذار الماضي، بعدما خُطّط لها على عجل ومن دون رؤية واضحة، وفق ما ظهر في دردشة كبار أعضاء الإدارة الأميركية على تطبيق “سيغنال”.
ولم يقدّم المسؤولون الأميركيون إلا القليل من التفاصيل حول التغيير المفاجئ هذا، سوى الإصرار على ما أعلنوه منذ بداية الجولة الثانية من اعتبار الضربات “قصة نجاح” للرئيس دونالد ترامب وأركان إدارته، بعيداً من الوقائع على الأرض.
على أن أكثر المتضرّرين من الإعلان الأميركي، هو إسرائيل التي ستضطر إلى أن تقوم بالمهمة التي أراحتها منها واشنطن طوال الحرب على قطاع غزة. وفور الإعلان عن الاتفاق، أثيرت في تل أبيب مخاوف من أن تظل الأخيرة وحيدة في الحملة ضد هذا البلد، كما طُرحت أسئلة عن المسؤول عن الإخفاق السياسي الذي أدّى إلى أن تعلم إسرائيل من التلفاز عن وقف إطلاق النار. وفي هذا السياق، قال مسؤول إسرائيلي لصحيفة “جيروزاليم بوست”: “صُدمنا تماماً. لم يتم إبلاغ إسرائيل قبل أن يدلي ترامب بتصريحه”، في وقت برزت فيه شكوك في أن هذه قد لا تكون الحالة الأولى – أو الأخيرة – التي تخفي فيها إدارة ترامب معلومات عن إسرائيل.
وجد ترامب نفسه أمام خيارات محدودة كلها تهدّد واشنطن بالغرق في المستنقع اليمني
على أي حال، أدّى الصمود اليمني والاستمرار في استهداف الأصول الأميركية في الأسابيع الماضية إلى قلب الموازين، على نحو فرض إعادة النظر في الخطط المبنية على الرغبة في تحقيق إنجازات مستعجلة. وإذ بات واضحاً أن أياً من الأهداف لم يتحقّق، وأن اليمن تكيّف مع الوضعية الحالية، وأن على إدارة ترامب، في المقابل، تحمّل كلفة مادية ومعنوية ثبت أنها غير مستعدّة لدفعها، فقد دفعت كل هذه المعطيات أصحاب القرار الأميركيين إلى إجراء اتصالات مع اليمن عبر الوسيط العماني، وعرض الموافقة على وقف إطلاق النار، والذي يمكن إرجاعه إلى ما يلي:
- التأكّد من أنْ لا إمكانية لتدمير قدرات اليمن العسكرية المحصّنة، أو التأثير على القرار السياسي اليمني في إسناد قطاع غزة، مهما طال أمد الضربات الجوية.
- الوصول إلى نتائج قاطعة بعدم القدرة على إنشاء تحالف عربي (مصر، السعودية والإمارات) يمكن استخدامه لغزو اليمن برياً، إذ تحوّلت الولايات المتحدة من دولة تبتز الأعداء والأصدقاء بواسطة إدارة النزاعات بين الأطراف المختلفة، إلى دولة تتعرّض للابتزاز لحاجتها إلى دول قرّرت أنه ليس من مصلحتها الانخراط في حرب تشنّها واشنطن نيابة عن إسرائيل.
- عدم جهوزية الفصائل المحلية المُموّلة من السعودية والإمارات لفتح جبهات عسكرية برية ضد قوات صنعاء.
- ازدياد شعبية “أنصار الله” بفعل انخراطها في إسناد غزة، وتحوّلها إلى حالة ملهمة، ولا سيما بعد استهدافها الأصول الأميركية في البحر الأحمر.
- نجاح اليمن في إسقاط 22 طائرة مُسيّرة من نوع “إم كيو 9” والتسبّب في سقوط ثلاث طائرات مقاتلة من نوع “إف 18″، فضلاً عن خشية المستوى العسكري الأميركي من الإصابة المباشرة لإحدى حاملات الطائرات أو القطع المرافقة لها، وهي إمكانية واردة بقوة، وفق البيانات الرسمية وتصريحات الضباط، الأمر الذي يُنظر إليه في “القيادة المركزية الأميركية” على أنه عار أبديّ للبحرية الأميركية.
- تحوّل الخسائر المدنية اليمنية جراء القصف العشوائي إلى مادة في التجاذب الداخلي الأميركي، واستغلالها من قبل خصوم ترامب.
هكذا، وجد ترامب نفسه أمام خيارات محدودة، كلها تهدّد واشنطن بالغرق في المستنقع اليمني، إذ إن خيار توسعة الحرب وشمولها الإنزال البري يخالف الرغبة في وقف الحروب في الشرق الأوسط، فضلاً عن تكلفته الباهظة مقابل نتائج غير مؤكّدة، فيما خيار الاستمرار في الوتيرة المكثّفة نفسها من الغارات، تأكّد عقمه وأيضاً ارتفاع تكلفته. وعليه، قرّر ترامب الانسحاب من الصراع من دون أن ينهيه، وفق صحيفة “ذا أتلانتك”، مع علمه المسبق بأن اليمن لن يتوقّف عن القيام بواجبه في إسناد غزة.