الجمعة, 21 نوفمبر 2025 07:21 PM

سوريا الجديدة: إجماع وطني وفرص واعدة لم تستغل بعد

سوريا الجديدة: إجماع وطني وفرص واعدة لم تستغل بعد

بقلم وزير الإعلام: حمزة المصطفى

أصبح الانتقال إلى مرحلة البناء الداخلي وإعادة الوحدة الوطنية في سوريا أمراً حتمياً بعد تحريرها في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. هذه المرحلة تمثل فرصة بنيوية هامة للفاعلين السوريين، من حركات عسكرية وسياسية واجتماعية، للانتقال إلى فضاء الدولة وعملها السياسي المنظم، بعد عقود من الاستبداد والسلطوية وتفسخ الدولة والانقسامات.

لم يخرج مسار الانتقال في سوريا عن التوقعات من حيث التحديات، لكنه تجاوزها في سرعة تبلوره مؤسسياً واستقراره، وترسيخ اعترافه دولياً كطريق أمثل لتجاوز الصراع السوري وتداعياته على الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي. وكما هو معروف في دراسات الانتقال السياسي، تختلف القوى الحزبية في مقاربتها للفرص السياسية، بين الاستفادة منها وتوسيعها ضمن معادلة رابحة للجميع، أو محاولة استغلالها لمصالحها الخاصة والفئوية.

سوريا ما بعد الأسد لم تكن استثناءً، حيث اتفقت غالبية القوى السياسية والعسكرية على الدولة كبديل عن استمرار الفصائلية. لكن بعض القوى، خاصة تلك التي نشأت لتحاكي خصوصية هوياتية معينة تضخمت في سياقات الحرب السورية، اختارت نهجاً بديلاً بمعارضة كل الطروحات التوافقية، ورهنت استمراريتها بفرضية أن الحكومة السورية الجديدة لن تستطيع إثبات شرعيتها خارجياً وتجاوز التحديات والعقوبات، وأنها تخدم بالوكالة دولاً لا تتوافق توجهاتها مع سوريا موحدة ومستقرة.

يمكن تلمس ذلك في سلوك "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وبعض الفصائل من السويداء، الأمر الذي حال دون مشاركتها في عملية بناء الدولة. السؤال المطروح الآن، بعد الانفتاح الدولي والإقليمي الكبير على سوريا الجديدة، هو الخيارات المتاحة أمام هذه القوى، بما في ذلك الاستمرار على هذا النهج والمخاطرة بالفوضى أو التقسيم.

الاعتراف الدولي الواسع أعاد ترتيب الأوراق أمام جميع الفاعلين، في الداخل والخارج على حدّ سواء، إذ غدت سوريا الجديدة خيارا معترفا به دوليا لتحقيق الاستقرار

زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة كانت محطة سياسية وتاريخية فارقة، توجت مسار سوريا الجديدة وحراكها الدبلوماسي. زيارة واشنطن ولقاء الرئيس دونالد ترمب أعلنا دعم الولايات المتحدة لوحدة الأراضي السورية وشرعية الحكومة الجديدة، وعدّت الدولة السورية الجديدة شريكاً أساسياً في ضمان الاستقرار الإقليمي وإدارة التحولات في فترة ما بعد الحرب. هذا الاعتراف الدولي الواسع أعاد ترتيب الأوراق، وأصبح خيار سوريا الجديدة معترفاً به دولياً لتحقيق الاستقرار، بدلاً من أن تكون ساحة لمشاريع جزئية أو انفصالية. وبذلك، تلقت الأوهام حول إمكانية الحماية الدولية لكيانات موازية للدولة ضربة قاسية.

رسّخت الزيارة تحولاً ملموساً في الموقف الأميركي تجاه الملف الأمني الإقليمي، مع انحياز متزايد لخيار اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل يقوم على انسحاب الأخيرة من المناطق التي احتلتها بعد الثامن من ديسمبر. ويُبطل هذا التطور مشروع بعض الفصائل في السويداء، المبني على رهانات تستند إلى الخطاب الإسرائيلي فقط.

وجدت “قسد” نفسها أمام وقائع سياسية وأمنية جديدة. لسنوات، حاولت “قسد” أن تُصوّر نفسها كشريك لا غنى عنه للولايات المتحدة في محاربة “داعش” مقابل تساهل سياسي ووجود أميركي ممتد

لسنوات، حاولت "قسد" أن تُصوّر نفسها كشريك لا غنى عنه للولايات المتحدة في محاربة "داعش" مقابل تساهل سياسي ووجود أميركي ممتد. في المقابل، تأرجحت واشنطن بين خطط الانسحاب المعلنة والبقاء المتردد، مُقيّدة بغياب شريك سوري شرعي قادر على ضمان هزيمة دائمة لـ"داعش" ومنع حدوث فراغ أمني، وهو ما توفر الآن بعد انضمام سوريا إلى التحالف الدولي، لتصبح دمشق الشريك الشرعي في محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في المنطقة.

الآن وبعد أشهر من المماطلة، تضيق خيارات "قسد" فيما إذا كانت تريد تجنب مواجهة غير مرغوبة تتحمل تبعاتها كاملة، وتنحصر في مسار الاندماج الوطني بوصفه الخيار الوحيد الآمن والعودة إلى المبادرة السورية التي اقترحت دمج "قسد" ضمن حل وطني شامل، بوصفها حلا وسطا واقعيا يحفظ وحدة البلاد ويضمن حقوق جميع المكوّنات في إطار مؤسسات الدولة، وهو طرح حظي حينها بمباركة واشنطن، وترافق مع خريطة طريق واضحة، باتفاق مارس/آذار الذي رسم مسارات عملية لإعادة هيكلة الانتشار العسكري والأمني والإداري في الجزيرة السورية.

أصبح الانتقال إلى مرحلة البناء الداخلي وإعادة الوحدة الوطنية أمرا حتميا لا ترفا سياسيا، ويغدو الخيار الوطني الجامع الطريق الوحيد نحو سوريا واحدة مستقرة

اقتصادياً، تدخل سوريا للمرة الأولى منذ عام 1979 مرحلة خروج تدريجي من دائرة العقوبات الدولية. ومن المتوقع أن تشكّل سنة 2026 محطة فارقة في مسار استعادة الحضور الاقتصادي السوري في النظام الدولي، مع إزالة أغلب العوائق التي كبّلت الاقتصاد لعقود. هذا الانفتاح المرتقب حثَّ عدداً من الشركات الأميركية الكبرى للعودة إلى السوق السورية، لا سيما في مجالات الطاقة واستثمار الحقول النفطية والبنى التحتية الحيوية.

أثبتت الدولة السورية في المرحلة الأخيرة قدرة لافتة على إدارة التوازنات الدقيقة بين القوى الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، ومن الاتحاد الأوروبي إلى الصين، بالتوازي مع إعادة بناء شبكة علاقاتها العربية والإقليمية. ونجحت في تجاوز القوالب التقليدية التي حكمت سياسات المنطقة عقوداً، لتظهر لاعباً أساسياً في رسم ملامح التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط.

في ضوء هذه التحولات، يصبح الانتقال إلى مرحلة البناء الداخلي وإعادة الوحدة الوطنية أمراً حتمياً لا ترفاً سياسياً، ويغدو الخيار الوطني الجامع الطريق الوحيد نحو سوريا واحدة مستقرة، تتجاوز انقسامات الماضي، وتفتح الباب أمام جميع مكوّناتها للمشاركة الفاعلة في صناعة مستقبل مزدهر يليق بتضحيات السوريين وتطلعاتهم.

مشاركة المقال: