السبت, 1 نوفمبر 2025 12:53 PM

دروس من التجربة الصينية: كيف نهضت الصين بالإصلاح الاقتصادي؟ رؤى لصناع القرار في سوريا

دروس من التجربة الصينية: كيف نهضت الصين بالإصلاح الاقتصادي؟ رؤى لصناع القرار في سوريا

يكثر الحديث في سورية هذه الأيام عن ضرورة إعطاء الأولوية للتطور الاقتصادي كأساس للنهوض والتقدم. وأود هنا إلقاء الضوء، بعجالة، على التجربة الصينية في هذا المجال، علّ ذلك يكون مفيدًا لأصحاب القرار.

بدأ الإصلاح الاقتصادي في الصين عام 1978 على يد دينغ شياو بنغ، الذي تولى زعامة البلاد وورث اقتصادًا شبه مدمر وشعبًا منهكًا فقيرًا بسبب النهج المتشدد الذي مارسه ماو. لقد تجسد نهج ماو في حدثين كبيرين، أولهما "القفزة الكبرى 1958-1962"، والتي رفعت شعار اللحاق اقتصاديًا بأمريكا، واستخدمت كل وسائل العنف والشدة والتطرف في العملية الاقتصادية. وكما هو متوقع، فقد تمخضت هذه "القفزة" عن كوارث حقيقية أدت إلى تدمير الاقتصاد الصيني والتسبب في حدوث أكبر مجاعة عرفها التاريخ، راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر.

والحدث الآخر هو "الثورة الثقافية" التي شهدتها الصين في الفترة الممتدة من عام 1966 إلى 1976. وكان شعار هذه الثورة هو "تنظيف" الحزب الشيوعي من العناصر البورجوازية على يد شباب الحرس الأحمر. وكانت النتيجة مأساوية حقًا، فقد تم تجميد التعليم لمدة أربع سنوات في المدارس والجامعات، وتنسيب الطلاب في صفوف الحرس الأحمر. كما جرت عمليات اضطهاد غير مسبوقة بحق مئات الآلاف من العلماء وكبار المختصين، بذريعة أنهم من البورجوازية. ولم تسلم من موجات التدمير معظم آثار الصين، التي تم القضاء عليها تحت يافطة "تدمير الإرث الإقطاعي". وفي كلا الحدثين، كان التشدد الإيديولوجي هو المهيمن، إضافة إلى رغبة ماو في الاستئثار بالسلطة وتصفية معارضيه. (وقد تحدثت عن هذه الأحداث وعن تجارب الصين التنموية بالتفصيل في كتابي الذي صدر بعنوان: "تجارب الصين من التطرف إلى الاعتدال").

أعود الآن إلى بداية الإصلاح في الصين. كانت المهمة الأولى أمام دينغ، الذي أصبح زعيما للبلاد بعد وفاة ماو، هي انتشال الصين من التخلف والفقر والفوضى، والبدء بالنهوض الاقتصادي وتحقيق الاستقرار السياسي. ولإنجاز ذلك، اختط دينغ نهجًا جديدًا يخالف الماوية، يقوم على التخفيف من نظرية الصراع الطبقي، واتباع سياسة الإصلاح والانفتاح، أي إصلاح ما خربه تشدد ماو في الاقتصاد، والانفتاح السياسي على القوى الليبرالية الصينية، وتخفيف تدخل الحزب والسلطة في العملية الاقتصادية، وإعطاء الاقتصاد الأولوية في جهود الدولة داخليًا وخارجيًا، وبناء التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وأول خطوة قام بها دينغ كانت السعي إلى جذب أموال المغتربين الصينيين في كل من هونغ كونغ ومكاو، إضافة إلى تايوان، للمساهمة في تمويل خطط الإصلاح والنهوض الصينية. وقد تمكن دينغ من استقطاب مئات المليارات من هذه الأموال، التي وضعت اللبنة الأولى في بناء الصين المتقدمة. والخطوة التالية تجلت في حرص دينغ الشخصي على الاطلاع على تجارب الدول الآسيوية الناجحة في التقدم الاقتصادي. ولذلك قام بزيارة كل من ماليزيا وسنغافورة، وأصغى باهتمام إلى تجربة مهاتير محمد التنموية، الذي نصحه بالبدء في إحداث مناطق تنموية تجريبية، يتم فيما بعد تعميم الأنموذج الناجح منها، واستبعاد تلك التي أخفقت. كما التقى عدة مرات مع زعيم تجربة إصلاحية أخرى في سنغافورة، هو لي كوان يو، الذي اقترح على دينغ التخلي عن الصراع الطبقي، والانفتاح الفوري على الولايات المتحدة، والتراجع عن نهج العداء معها. وبناء على تلك النصيحة، زار دينغ أمريكا عام 1979، وتناول شرائح الهمبرغر أمام الكاميرات، وارتدى لباس رعاة البقر، وقدم رسائل طمأنة للشركات الأمريكية بهدف جذبها إلى السوق الصينية. وقد استغل الزعيم الصيني عداء بكين – آنذاك – للاتحاد السوفياتي من أجل التقارب السياسي مع أمريكا. وكانت النتيجة تدفق مئات المليارات من الاستثمارات الغربية على الصين، ورفع القيود عن دخول التقانة الغربية المتقدمة إلى السوق الصينية.

ومن أجل إقناع الحزب الشيوعي الصيني بأهمية الإصلاح، طرح دينغ عدة مقولات، باتت الموجه الرئيس لسياسته التي استمرت نحو أربعين عامًا. من هذه المقولات:

  • ليس مهمًا لون القط إن كان أحمرًا أو أسودًا، المهم أن يصطاد الفئران.
  • لابد من اتباع سياسة التدرج في التنمية الاقتصادية والابتعاد عن نهج الصدمات، فالخطوات المتسرعة تهدد بانهيار بناء الإصلاح كله.
  • إن الشرط الأساسي لنجاح الإصلاح مرتبط بتأييد الشعب له، وهذا الأمر لن يتحقق ما لم يلمس الناس فوائد الإصلاح وثمراته في الحياة اليومية.
  • إن الإصلاح يكون أحيانًا مؤلمًا للجمهور، ومهمة الدولة هي السعي لتخفيف هذا الألم قدر المستطاع.

لقد أدخل دينغ كذلك إصلاحات مهمة إلى البناء السياسي الصيني، أهمها عدم تدخل الدولة والحزب في الشؤون اليومية للعملية الاقتصادية، وترسيخ مبدأ القيادة الجماعية لمنع انفراد شخص ما بالسلطة ومنع تكرار تجربة ماو تسي تونغ، وكذلك مبدأ تداخل أجيال القيادات الصينية لاستمرار نهج الإصلاح.

لقد أرست الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي اختطها دينغ شياو بينغ دعائم قوية لبناء الصين المتقدمة، ووفرت لها الشروط المناسبة لتصبح المنافس الأول للولايات المتحدة الأمريكية. (أخبار سوريا الوطن1-مركز الوادي للدراسات الأسيوية)

مشاركة المقال: