بقلم: سمير التقي
في ظل التخبطات والانحيازات التي تشوب الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، تستعد الدبلوماسية الروسية لاستغلال هذه الثغرات.
بعد فشل المقاربات الأميركية والأوروبية في إدارة المنطقة عقب "الربيع العربي"، فوض الغرب روسيا بضبط توازن الإقليم، من خلال صفقات مع تركيا وسوريا وحتى إسرائيل. استخدمت روسيا المنصة السورية لفرض قوتها على المدنيين، ملتزمة بتقسيم العمل المتفق عليه في اتفاقيات "سوتشي" و"القدس"، تحت إشراف أميركي.
لكن الغرب اكتشف لاحقًا أن الرئيس الروسي بوتين لا يلتزم بقواعد واشنطن، بل يستغل الإخفاقات الأميركية لفرض نفسه وسيطًا ضروريًا في الشرق الأوسط، كما حدث في خمسينيات القرن الماضي. رسخت روسيا قواعدها العسكرية وأصبحت وسيطًا مؤثرًا في التوازنات الإقليمية.
غزو أوكرانيا قلب هذا المشروع رأسًا على عقب، حيث فضلت أوروبا الابتعاد عن الطاقة الروسية. أدى ذلك إلى تغيير جذري في تقسيم العمل بين روسيا والغرب، وأصبحت أوروبا مركز الصراع الدولي بدلًا من الشرق الأوسط.
كان من المفترض أن تنتهي الحرب الأوكرانية سريعًا، لكنها خلفت عواقب استراتيجية سلبية طويلة الأمد على روسيا. فبالإضافة إلى تطويقها بحلف الأطلسي، خسرت روسيا رهانها في الشرق الأوسط الذي تم رسمه في "سوتشي" مع تركيا، والذي كان يهدف إلى تحويل البلدين إلى شريكين استراتيجيين في نقل الطاقة من آسيا الوسطى عبر جيهان – تركيا إلى أوروبا، كبديل لسحب تركيا من التحالف الغربي والاتحاد الأوروبي.
بعد أحداث السابع من أكتوبر، تغير السياق الاستراتيجي في الشرق الأوسط بالكامل. لم تعد إسرائيل تقبل بتفويض وسطاء القوة لضبط حربها الباردة مع إيران، بل أصبحت تسوي الأمور بنفسها. كما خسرت روسيا سوقًا واسعة للسلاح وحلفاء كثر. في سوريا، وعدت روسيا بتحويل حلب إلى "غروزني الثانية" ونجحت في تدميرها، لكنها فشلت في إعادة إعمارها. ثم جاءت هزيمة نظام الأسد، مما أدى إلى انهيار أهم رصيد استراتيجي لروسيا في الشرق الأوسط، وهو الجيش السوري. أصبحت القواعد الروسية في سوريا مكشوفة، وتدرك روسيا دور أوكرانيا في تزويد "هيئة تحرير الشام" بالمسيّرات، وتأثير المسيّرات البحرية الأوكرانية على أسطول البحر الأسود الروسي.
الحرب الخاطفة بين إسرائيل وإيران قطعت التقارب الإيراني نحو روسيا. لم تخسر روسيا هامش المناورة مع تركيا فحسب، بل أثبتت إسرائيل أنها ذراع طويلة للغرب والولايات المتحدة، وأثبتت التجربة أنه عند الجد لم تتمكن روسيا من التدخل بشكل حاسم لصالح حلفائها في أرمينيا وسوريا وإيران وتركيا.
لم يتوقف الأمر عند سحب التفويض الغربي لروسيا في الإقليم، بل يقدم مشروع ترامب حلًا لأزمة غزة لا يستبعد روسيا والصين فحسب، بل يترك لأوروبا والأمم المتحدة دورًا ثانويًا، إذ ترغب أميركا في أن تصبح وسيط القوة المتفرد في الإقليم. ورغم أن هذا الكلام لا يزال نظريًا، إلا أنه يكشف النوايا الأميركية.
كنت أعرف في روسيا استراتيجيين كبار، لكنني لست على اطلاع على الجيل الجديد. ومع ذلك، أنا واثق من أنهم يدركون مغزى هذه التحولات، وهناك مراجعات عميقة للاستراتيجية الروسية على المدى الطويل.
يكمن العيب الجوهري في الاستراتيجية الروسية في التركيز على التوافقات الأمنية والصفقات العابرة مع "الأوليغارش"، بدلًا من الاستثمار في قوى الإنتاج والتنمية. في إقليم مضطرب كالشرق الأوسط، لا تنفع الاتفاقات البراغماتية في بناء تحالفات مستدامة لروسيا.
العيب الثاني هو أن روسيا لا يمكن أن تبني استراتيجيتها الجديدة في الإقليم على مجرد ملء الفراغ الذي تتركه أخطاء الولايات المتحدة. لأكثر من ثلاثة عقود، لجأت الاستراتيجية الروسية إلى تحالفات براغماتية قلقة وغير مستقرة مع الجميع، ولا يمكن بناء منظومة استراتيجية طويلة الأمد على تعهدات الأشخاص أو المشاريع العابرة.
في ظل تفكك العولمة وظهور عالم متعدد الأقطاب، تبرز فرصة استراتيجية حقيقية لروسيا، شرط إعادة هيكلة مصالحها وتحالفاتها في الإقليم، والمراهنة على أن تكون قوة استقرار عبر التحالف مع القوى الجديدة الصاعدة، المتطلعة إلى السلام والحوكمة والتنمية الحقيقية والاستقرار.
هل تستطيع روسيا أن تقدم بديلًا واعدًا في مجالات الحوكمة والتنمية؟ وهل تستطيع أن تقدم بديلًا تنمويًا عن تسييد إسرائيل؟ وهل يمكنها أن تنتج استراتيجية جديدة متكاملة تناسب خيار العرب ودول الخليج في سلام منصف؟ وهل تستطيع أن تقدم خيارًا غير التدخل العسكري؟ تحتاج هذه الأسئلة إلى مراجعات عميقة لبنية الاستراتيجية الروسية ورؤيتها لمصالحها.
(أخبار سوريا الوطن1-النهار)