وسط الدمار والركام، يحاول الفلسطينيون في مخيم اليرموك جنوبي العاصمة السورية دمشق، يائسين العثور على قبور ذويهم داخل مقبرة المخيم. هذا بعد أن قام نظام بشار الأسد وحلفاؤه بتدميرها خلال عمليات بحث عن رفات جنود إسرائيليين قتلوا في عام 1982، بهدف تسليمها إلى تل أبيب.
تعود جذور هذه المأساة إلى معركة السلطان يعقوب التي وقعت عام 1982 بين الجيشين السوري والإسرائيلي في سهل البقاع اللبناني. حيث دُفن عدد من الجنود الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم خلال تلك المعركة في المقبرة القديمة لمخيم اليرموك.
في وقت لاحق، وبعد حصاره المخيم عام 2013، باشر نظام الأسد عمليات حفر في المقبرة بحثًا عن رفات الجنود الإسرائيليين بغية تسليمها لتل أبيب، مما أدى إلى تدمير القبور وتكسير شواهدها وتغيير مواقعها بالكامل. يذكر أن مخيم اليرموك تأسس عام 1957 جنوبي دمشق لإيواء آلاف اللاجئين الفلسطينيين، وتحول مع مرور الوقت إلى مدينة صغيرة يقطنها نحو مائة ألف نسمة قبل اندلاع الثورة في سوريا عام 2011. لكن سنوات الصراع حوّلت المخيم إلى منطقة منكوبة بعد أن دُمّرت أحياءه ومدارسه ومستشفياته، ولم تسلم المقبرة من هذا الخراب.
وفي حديث لوكالة "الأناضول"، أوضح نائل حميد أبو ياسر، المسؤول عن مقبرة اليرموك، أن "الميليشيات التابعة لنظام الأسد وحلفائه تعمّدت استهداف المقبرة وقامت بتكسير الحجارة وإزالة الشواهد، ونُقلت مواقع الدفن عمدًا لطمس أي أثرٍ للهوية". وأضاف: "لم يكن هذا الدمار عبثيًا، بل كان مقصودًا، فمخيم اليرموك كان يعرف بأنه عاصمة الشتات الفلسطيني، والنظام أراد تدمير رمزيته ومحو أي دليل على وجود رفات لجنود إسرائيليين".
يُشار إلى أن مصطلح "فلسطينيو الشتات" يطلق على الفلسطينيين الذين يعيشون خارج بلادهم بعد أن هُجروا من مدنهم وبلداتهم إثر "النكبة" عام 1948 و"النكسة" عام 1967، ويتمركز غالبيتهم في سوريا ولبنان والأردن في مخيمات للاجئين. ويطلق الفلسطينيون مصطلح "النكبة" على اليوم الذي أُعلن فيه قيام "إسرائيل" على معظم أراضيهم بتاريخ 15 مايو/ أيار 1948 بعد أن ارتكبت العصابات الصهيونية مجازر بحقهم وهجرتهم من ديارهم. فيما يطلقون مصطلح "النكسة" على حرب الأيام الستة التي دارت رحاها عام 1967 بين إسرائيل من جهة، وكل من مصر وسوريا والأردن والعراق من جهةٍ ثانية حيث انتهت باحتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية.
وأشار أبو ياسر إلى أن "قوات روسية تمركزت لاحقًا في منطقة مخيم اليرموك"، لافتًا إلى أن النظام وحلفاءه "نبشوا القبور واحدًا تلو الآخر حتى عثروا على رفات الجنود الإسرائيليين وسلّموها إلى الحكومة الإسرائيلية، ثم أزالوا كل علامات القبور بحيث لم يعد ممكنًا تحديد هوية أصحابها". ويضيف بأسى أنّ "عائلات كثيرة تبحث اليوم، عن أماكن دفن أحبائها وسط هذا الركام".
وأردف أبو ياسر: "بعض الأسر تحمل صورًا قديمة وتحاول المقارنة بالمكان، لكنّها لا تجد شيئًا، فيما نحاول نحن من جانبنا جمع ما تبقى من السجلات القديمة وإعادة تثبيت الشواهد بطريقة رسمية، حتى يتمكن الناس من التعرف على قبور ذويهم".
وفي المقبرة قسمٌ خاص لضحايا حصار النظام لمخيم اليرموك عام 2013، حيث توفي أكثر من 140 شخصًا جوعًا نتيجة منع دخول أي مساعدات غذائية. وفي هذا الإطار، يشير أبو ياسر إلى ذلك قائلًا: "خلفي مباشرة قسم ضحايا الجوع، القائد الميداني للنظام حينها عصام زهر الدين، لم يسمح بدخول حتى حبة أرز واحدة، فمات عشرات المدنيين جوعًا أمام أنظار العالم".
كما تضم المقبرة جزءًا آخر يضم رفات قتلى سقطوا خلال حصار بيروت عام 1982. وحصار بيروت حدث في صيف 1982، كنتيجة لانهيار وقف إطلاق النارِ الذي أقرته الأمم المتحدة، انتهى الحصار بخروج منظمة التحرير الفلسطينية بالقوة من لبنان وإنشاء إسرائيل "منطقة أمن" عبارة عن قطاع من الأرض عرضه عشرة أميال على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وقد انسحبت تل أبيب من المنطقة لاحقاً في عام 2000.
ويقول أبو ياسر في هذا الإطار: "هنا يرقد 82 شهيدًا من الفلسطينيين والعرب والسوريين، بعضهم معروف الهوية وبعضهم مجهول، لكنهم جميعًا دُفنوا جنبًا إلى جنب في ترابٍ واحد".
اليوم، وبعد أكثر من عقد على الدمار، ما يزال سكان المخيم يحاولون ترميم ذاكرتهم المفقودة بين المقابر المهدمة والقبور المجهولة، في مشهد يلخص مأساة اليرموك التي تحوّلت من رمزٍ للشتات الفلسطيني إلى شاهدٍ على جريمة طمس للتاريخ.
الأناضول