في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الحديث في السياسة والشأن العام متاحًا للجميع. فكل من يمتلك جهاز كمبيوتر محمولًا أو هاتفًا جوالًا متصلًا بالإنترنت، يستطيع أن يعبر عن رأيه في أي قضية، حتى وإن كانت معقدة وبعيدة عن تخصصه. حتى أنه يبدي رأيه في الصور التي تنشرها وكالة "ناسا" عن الكون والفضاء الخارجي!
في السابق، كنت أرى هذا الأمر مضرًا بمجتمعاتنا التي تعاني من التخلف، وكنت أزعم أنه يشتت الحوار ويخلط الأمور. ولكن صديقي العزيز، الجنرال المتقاعد غازي أبو عقل، خالفني الرأي، موضحًا أن هذا يمثل انتقالًا كبيرًا من عصر احتكار المنابر الإعلامية إلى عصر الحرية بمعناها الواسع. ذات مرة، قلت له: "لكن هناك من يستغل هذه الحرية ويسبنا." فأجابني بشيء من الحدة: "دعهم يسبون يا خطيب. المهم أن تكون لدينا حرية!"
اليوم، وبعد مرور عقدين من الزمن على هذا الحديث، أصبحت أرى هذه الحرية غير المحدودة جيدة بالفعل، فقد صرنا نقرأ ونسمع حكايات وتفاصيل لم يكن تداولها واردًا في السابق، بما في ذلك أحداث طريفة ومسلية. فعلى سبيل المثال، ابتكر نظام الأسد في الشهور الأولى للثورة طريقة ديماغوجية وشعبوية لكسب تأييد الشعب في قتل السوريين المنتفضين، وهي أن يقوم بعض الأهالي برش حبات من الرز على الآليات المصفحة أثناء عودتها من مهامها القمعية.
أرسل إليّ أحد الأصدقاء تفاصيل موقف متوتر جرى بين رجل من ديرتنا وأرملة شقيقه المتوفى. كانت الأرملة تؤيد النظام وتكره الثوار، وذات يوم، اقتحمت قطعة عسكرية إحدى القرى، وفي أثناء انسحابها وقفت تزغرد لرتل المدرعات وترش عليها حبات من الرز. وبما أن الرجل كان ثائرًا ومعاديًا لنظام الأسد، فالمتوقع أن يكون خلافه مع أرملة أخيه سياسيًا، ولكن ما أزعجه وأخرجه عن طوره هو أن أيتام أخيه اشتكوا إليه أكثر من مرة أنهم يشتهون أكلة "رز بحليب"، ووالدتهم لا تلبي طلبهم بحجة أن الرز مرتفع الثمن وهي لا تمتلك فائضًا من المال لشرائه!
قبل سنة 2011، كان الشائع بين الأشخاص الذين امتلكوا أجهزة خلوية أن يرسل بعضهم إلى أصدقائهم عبر "البلوتوث" مقاطع صوتية مضحكة، منها أن رجلًا اتصل بواحد غشيم وراح يتغالظ عليه بأسئلة وحكايات بائخة، فاعتقد الرجل الغشيم أن هناك من يحول عليه مكالمات غريبة من أشخاص مجهولين، وصار يسب ويشتم ويقول: "مين عم يحول علينا المكالمات بهالشكل؟ مين عم يحول؟"
بعد سنة 2012، تطورت عمليات قمع الثورة من قبل نظام الأسد، وأصبح الطيران الحربي يشارك في العمليات، وفي سنة 2016، صار يوجد في أجواء الشمال السوري طيران سوري وطيران روسي، وكان ثمة رجل "مسخرجي" اسمه أبو برهو، اعتاد، مثلما اعتاد معظم الأهالي، على القصف، وصار يحول أخبار القصف، حتى المؤلمة منها، إلى طرائف مضحكة. وذات يوم، كان أبو برهو جالسًا على بيدر القرية، وإذ جاء شخص مذعور يتلفت إلى الأعلى والوراء ويصيح: "اهربوا. أجاكم الحربي." فقال له أبو برهو ببرود: "مين عم يحول علينا هالطيران؟ مين عم يحول؟"