الأحد, 12 أكتوبر 2025 12:04 AM

عقد من الخيبات في الجزيرة السورية: الأمن والخبز والتعليم مجرد وعود

عقد من الخيبات في الجزيرة السورية: الأمن والخبز والتعليم مجرد وعود

في مدن الشمال الشرقي السوري، من الرقة إلى الحسكة ودير الزور، مر عقد كامل شهد تغيرات في الوجوه والسياسات والشعارات والوعود، لكن هموم الناس بقيت على حالها: الأمن، والخبز، والكهرباء، والتعليم. تعيش هذه المدن اليوم حالة انتظار طويلة، بين وعود إدارات متبدلة وشعارات كثيرة عن الحرية والمساواة، بينما الواقع على الأرض يحكي قصة مختلفة تمامًا.

يشعر أهالي الجزيرة، الذين خبروا الصبر على الشدائد، بأن العقد الأخير كان الأطول في حياتهم، وأن ما جنوه من تلك الشعارات لا يتعدى تعب السنين وثقل الوعود المكسورة. ففي أحياء الرقة القديمة، لا تزال مولدات الكهرباء الخاصة تصدح طوال الليل، كتذكير يومي بعجز السلطات عن تأمين أبسط مقومات الحياة. يشكو السكان من الانقطاعات المستمرة، وارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية، وتراجع فرص العمل. ويقول أحد الأهالي، الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية: "الناس يعيشون على ما يصلهم من تحويلات المغتربين، أو على المساعدات الأممية التي لا تكفي أسبوعًا واحدًا".

على الرغم من المساعدات الدولية الكبيرة، تشير تقارير منظمات حقوقية وأممية – منها "هيومن رايتس ووتش" – إلى أن الخدمات الأساسية في شمال شرق سوريا لم تتحسن فعليًا، وأن سوء الإدارة وتداخل السلطات وغياب التخطيط يعيق أي خطوات نحو تنمية حقيقية أو تحسين في مستوى المعيشة.

تعاني المدارس في الحسكة والرقة من فوضى المناهج ونقص الكوادر التعليمية. يتنقل الأطفال بين مناهج مختلفة بحسب الجهة المسيطرة على المنطقة، فيما تغيب الرقابة التربوية الفعلية والبيئة التعليمية السليمة. تقول معلمة من ريف الحسكة: "الطلاب يعيشون ارتباكًا كبيرًا، فكل عام تتبدل الكتب والمفاهيم، والنتيجة جيل لا يعرف ما ينتظره". وتؤكد التقارير المحلية أن نسب التسرب المدرسي ارتفعت بشكل مقلق خلال السنوات الماضية، إذ اضطر آلاف الأطفال إلى ترك مقاعد الدراسة والبحث عن عمل يعين أسرهم، أو بسبب فقدان أحد المعيلين بالتجنيد أو الاعتقال. جيل كامل اليوم مهدد بأن يكبر بلا تعليم ولا أفق واضح لمستقبله.

مع بداية كل عام دراسي جديد، تتجدد حالة الاستياء الشعبي في مناطق شمال وشرق سوريا. تواصل الإدارة الذاتية فرض مناهج تعليمية خاصة بها على المدارس الواقعة ضمن مناطق سيطرة قوات "قسد"، ما أثار مخاوف الأهالي من انعكاس هذه الخطوة على مستقبل أبنائهم الجامعي والمهني. يقول أحد أولياء الأمور لمنصة سورية: "لا أستطيع إرسال أولادي إلى مدارس الإدارة الذاتية لأن المناهج غريبة عن بيئتنا، والمدارس الخاصة القليلة التي تدرس منهاج الدولة مكلفة جدًا".

أحد الكتب الجديدة، الذي حمل عنوان "ستنتصر الحرية"، أثار جدلًا واسعًا بعد أن وضعت على غلافه صورة عبد الله أوجلان، الزعيم الكردي المعتقل في تركيا، ما اعتبره الأهالي "محاولة لفرض فكر سياسي على الأطفال وإقحامهم في قضايا لا تخص التعليم". من جهتهم، أعلن ناشطون تربويون مبادرات تطوعية لتدريس الطلاب منهاج وزارة التربية السورية عبر الإنترنت، في محاولة لمواجهة ما وصفوه بـ "تسييس التعليم". كما أكدت مدارس خاصة وكَنَسية في الحسكة والقامشلي رفضها تطبيق المناهج المفروضة، متمسكة بالمناهج الرسمية المعترف بها. وفي بيان رسمي، شددت أبرشية الجزيرة والفرات للسريان الأرثوذكس على أن التعليم يجب أن يبقى بعيدًا عن أي توجهات فكرية أو سياسية، مؤكدة رفضها القاطع لأي محاولة لفرض مناهج غير معترف بها.

الخوف، كما يصفه الأهالي، أصبح اللغة اليومية في الرقة ودير الزور؛ لا أحد يثق بالآخر، والحديث في السياسة بات مغامرة قد لا تمر بسلام. يقول شاب من ريف دير الزور: "نخاف من الكلام، كل كلمة محسوبة. حتى مواقع التواصل نفتحها بحذر". تشير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن الاعتقالات التعسفية ما زالت مستمرة في مناطق شمال شرق سوريا، وغالبًا دون أوامر قضائية أو محاكمات واضحة، وهو ما يعمق الشعور بعدم الأمان ويزرع الخوف في نفوس الناس.

في الآونة الأخيرة، شهدت الرقة موجة جديدة من الاعتقالات العشوائية طالت أشخاصًا لا علاقة لهم بأي نشاط سياسي أو عسكري. آخر تلك الحالات كانت اعتقال الشاب محمد أحمد الطيّار، بعد أن داهمت قوة أمنية منزله ليلًا واقتادته إلى جهة مجهولة. بعد أيام قليلة، أُبلغت والدته أنه أُدين بتهمة التعامل مع الأتراك دون أي دليل أو محاكمة عادلة. قالت الأم المكلومة لجيرانها وهي تبكي: "لم أره منذ أن أخذوه... فقط قالوا لي: ابنك خائن". قصة محمد ليست استثناءً، بل جزء من سلسلة طويلة من الاعتقالات التي تُنفَّذ بذريعة الأمن، لكنها في حقيقتها وسيلة لتصفية الحسابات الشخصية وإسكات أي صوت معارض. وأخيرًا، جاءت حملات التجنيد الإجباري التي استهدفت فئة الشباب بين 18 و40 عامًا، لتزيد من غضب الشارع وتدفع المئات للهرب أو الاختباء تجنبًا للزج في معسكرات لا يعرفون نهايتها.

العمل الصحفي في شمال شرق سوريا لا يزال محفوفًا بالمخاطر. يُسمح فقط لوسائل الإعلام المقربة من الإدارة المحلية بالعمل بحرية نسبية، بينما تمنَع المؤسسات المستقلة أو تُقيّد بتصاريح معقدة ومتابعات أمنية مستمرة. يقول أحد الصحفيين المحليين: "يمكن أن نصور نشاطًا رسميًا، لكن لا أحد يجرؤ على طرح أسئلة عن الفساد أو الاعتقالات، لأن العواقب معروفة". منظمة "مراسلون بلا حدود" أشارت في تقاريرها الأخيرة إلى تراجع حرية الصحافة في شمال سوريا، وتوثيقها حالات احتجاز واستدعاء متكررة بحق صحفيين وناشطين مدنيين حاولوا تغطية قضايا الفساد أو الاعتقالات أو سوء الخدمات.

على الرغم من أن المنطقة تُعد من أغنى مناطق سوريا بالنفط والغاز والزراعة، إلا أن سكانها لا يرون أثرًا لتلك الثروات في حياتهم اليومية. يشكو الأهالي من سوء توزيع الموارد وغياب الشفافية في إدارتها. لا أحد يعرف حجم العائدات أو أين تُنفَق، إذ لا توجد ميزانيات عامة منشورة ولا تقارير مالية دورية. يقول أحد التجار في الحسكة: "نبيع القمح بأسعار منخفضة، وندفع ضرائب مرتفعة، وفي النهاية لا نحصل حتى على طريق معبد أو شبكة مياه صالحة".

النساء في شمال شرق سوريا يدفعن الثمن الأكبر للأزمة. كثيرات فَقَدن أزواجهن أو أبناءهن، واضطررن لتولي مسؤولية إعالة أسرهن في ظروف قاسية. تقول أم خالد من ريف الرقة: "أبيع الخبز من بيتي منذ عامين، أخاف على أولادي من الشارع، لا أريدهم أن يضيعوا". تؤكد منظمات دولية أن النساء والفتيات في المنطقة يواجهن تحديات مضاعفة، من الفقر والعنف الأسري إلى القيود الاجتماعية التي تعمقت مع غياب القانون والمؤسسات الرسمية.

خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، تداول ناشطون صورًا من شوارع الرقة تُظهر رفع أعلام وشعارات وصور لرموز أجنبية عن المجتمع المحلي، من بينها صور الزعيم الكردي عبد الله أوجلان. الصور أثارت موجة غضب واسعة، واعتبرها السكان "استفزازًا متعمدًا" لهويتهم السورية. كتب الصحفي الرقّي محمد الحاج على مواقع التواصل: "بالله عليكم، أعطوني دلالة واحدة أنها مدينة سورية! أعطوني سببًا واحدًا لأن تُرفع صور هذا الغريب التركي في شوارع الرقة، مدينة الرشيد والتاريخ!". وأضاف الحاج: "أي عائلة في العالم يمكن أن تقبل أن يدرس أطفالها فكر شخص غريب عن بلدهم وثقافتهم؟ هذه الرموز لا تُمثلنا، ولا تُعبّر عن معاناة الناس في الرقة".

يرى كثير من الأهالي أن رفع هذه الصور محاولة لفرض هوية سياسية لا تُشبه المجتمع المحلي، وأن الرقة التي كانت يومًا منارة للعلم والثقافة تحولت اليوم إلى ساحة للرموز المفروضة والوجوه الغريبة، بينما صمت أهلها يُخفي خلفه وجعًا عميقًا. اليوم، بعد عقد من سيطرة "قسد"، لا تُشبه الجزيرة نفسها. تحولت من أرض كانت تنبض بالحياة والعلم والتنوع، إلى مساحة مُثقلة بالفقر والانغلاق والتشوه الثقافي. حلّت فيها ثقافة غريبة عن المجتمع، وشعارات لا تَمُتّ بصلة لتاريخ المكان ولا لعاداته، وصار الناس غرباء في شوارعهم. انتشرت الأمية من جديد، وتراجعت القيم التي كانت تميز المجتمع الرقّي والسوري عمومًا. الأمهات اللواتي كُنّ عماد البيوت أصبحن ضحايا الحاجة واليأس، والشباب الذين كانوا يحلمون بالمستقبل وجدوا أنفسهم بين بطالة خانقة وتجنيد إجباري لا يعرف هدفًا. حتى الأخلاق التي طالما كانت سمة المدينة بدأت تتآكل تحت ضغط الفقر والخوف والحرمان. لم تعرف الرقة يومًا هذا القدر من الانغلاق والضياع الثقافي، ولم تكن يومًا بهذه الغربة عن نفسها. فبدل أن تكون الجزيرة منارة للثقافة والتعليم كما كانت، أصبحت مختبرًا لتجارب سياسية وأفكار دخيلة لا علاقة لها بوجدان أهلها.

ولن تستعيد الجزيرة عافيتها إلا عندما تتحرر من هذه السيطرة التي خنقتها لعشر سنوات، وتعود لتكون كما كانت دائمًا: سورية الهوى، عربية القلب، مُنفتحة على الحياة لا على الشعارات. حينها فقط يمكن أن تعود الرقة والجزيرة إلى حقيقتها الأولى: أرض الناس البسطاء، التي تعرف معنى الكرامة، وتستحق أن تعيش بسلام وحرية حقيقية.

أحمد السخني - زمان الوصل

مشاركة المقال: