عنب بلدي – موفق الخوجة – لطالما اعتاد السياح والسوريون، وخاصة أهالي حلب، على زيارة قلعة حلب الأثرية بمجرد وصولهم إلى المدينة. تعتبر القلعة أيقونة حلب ومعلمها الأبرز، لما تمثله من رمزية تاريخية في واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف عام.
حُرم العديد من الحلبيين من رؤية القلعة خلال سنوات الثورة السورية بسبب موقعها في مناطق الاشتباكات، بالإضافة إلى هجرتهم من المدينة نتيجة للأوضاع السياسية وسيطرة النظام السابق. وبعد سقوط النظام وعودة بعض الأهالي، حرص الحلبيون على زيارة ساحة القلعة والتقاط الصور التذكارية، تعبيرًا عن عودتهم إلى مدينتهم بعد سنوات من الغربة والتهجير.
تعزيز الانتماء
ترتبط القلعة بوجدان الحلبيين، فهي تحمل بعدًا شاعريًا وسياسيًا يتعلق بصمودها في وجه الحملات العسكرية التي شهدتها حلب على مر العصور، وتعاقب الدول والحضارات والممالك، حيث بقيت على حالها ولم تتغير معالمها.
عمر صباغ، شاب ثلاثيني، غادر سوريا إلى تركيا قبل 11 عامًا، وعاد إلى حلب بعد أيام من سقوط النظام. أول ما فعله هو التجول في شوارع المدينة وأحيائها، بدءًا من القلعة. وقال إنه وجد الانتماء الذي كان يفتقده خلال السنوات الماضية، رغم زيارته للعديد من المناطق الجميلة في اسطنبول. وأضاف: "أشعر أن هذا المكان ملكي وأنا مسؤول عنه. أنا شخص لديه الآن وجود وحضور وتاريخ وجذور، ولدي مدينة جميلة أنتمي لها، وهذا ما كنت أفتقده في بلاد الاغتراب".
إعادة الافتتاح
أعيد افتتاح قلعة حلب في 27 أيلول الماضي بحفل رسمي وشعبي استمر يومين، بعد سنوات من الإغلاق بسبب العمليات العسكرية والزلزال الذي ضرب المنطقة في 6 شباط 2023. دخل عمر صباغ إلى القلعة خلال حفل إعادة افتتاحها، بعد آخر زيارة له في عام 2009. لم يلاحظ الشاب أي تغييرات في القلعة من حيث العمران أو الترميم أو آثار الحرب. ووصف حضوره الافتتاح بأنه "شعور عظيم ولحظات لا تُنسى"، معتبرًا أن أي حدث في حلب بعد غربة 11 عامًا هو بمثابة "لحظات تسطّر" وأنه يحضر "كتابة التاريخ".
يوافقه الفنان التشكيلي غسان عساف، الذي زار القلعة خلال فعالية إعادة افتتاحها، وقال إنه يدخل القلعة لأول مرة منذ عام 2009. عبّر عساف عن فرحته الكبيرة بحضوره الفعالية، متمنيًا إقامة فعاليات أخرى لرسم الابتسامة على وجوه الناس.
المنشد الحلبي عبد الناصر حلاق، مدير فرقة "نهاوند" للموشحات والتراث، أعرب عن فخره واعتزازه بوجوده في القلعة، التي وصفها بـ"قلعة الشموخ والصمود"، والتي دحرت هولاكو وتيمورلنك والرئيس السوري المخلوع، بشار الأسد. واعتبر المنشد، الذي أحيا اليوم الثاني من فعاليات الافتتاح في 28 أيلول الماضي، أن القلعة تستحق أن يقدّر فيها التراث الأصيل من موشحات وأدوار وقدود، التي تشتهر بها حلب.
شهد اليوم الثاني عروضًا فنية فلكلورية متنوعة تمثل القوميات التي تسكن المدينة، من العرب والشركس والكرد، بالإضافة إلى عروض للإنشاد والقدود قدمها المنشد حلاق. أُغلقت أبواب قلعة حلب منذ النصف الثاني لعام 2012 بسبب بدء العمليات العسكرية وسيطرة فصائل المعارضة على القسم الشرقي للمدينة. كانت القلعة حينها على خط المواجهة، حيث اتخذها النظام ثكنة عسكرية ومنصة للقناصات باتجاه مناطق سيطرة المعارضة. وبعد خروج المعارضة من الأحياء الشرقية في أواخر عام 2016، أعاد النظام افتتاح القلعة، إلا أن زلزال شباط 2023 أوقف الزيارات بسبب تضرر البناء والبدء بعمليات الترميم.
حفل بحضور الآلاف
توافد الآلاف إلى الساحة أمام قلعة حلب خلال حفل افتتاحها، بينما اقتصر الحضور في الداخل على دعوات خاصة وجهتها الحكومة لعدد محدود من الشخصيات، ووفرت المحافظة شاشة للبث المباشر. شهدت الساحة تفاعلًا حيًا للحاضرين أمام الشاشة الكبيرة التي نصبت أمام باب القلعة، وتفاعل الجمهور مع الأغاني والقدود الحلبية التي أداها الفنان الحلبي عبد الكريم حمدان خلال الحفل.
كان الحضور استثنائيًا، إلا أن الساحة يتوافد إليها مئات الزوار يوميًا للجلوس تحت أسوارها، إذ باتت إحدى أبرز الساحات التي يقصدها الحلبيون، خاصة مساء الخميس. يرى عمر صباغ أن النظر إلى القلعة يمثل شعورًا بالراحة والقوة لكثير من الحلبيين، وأنهم ينتمون لأرض عظيمة، ما يصل إلى مرحلة "الغرور بالانتماء". وقال إن النظر إلى قلعة حلب يختصر شرح "عظمة" هذا البلد وتاريخه.
تعتبر القلعة شاهدة على القوة العربية منذ القرن الـ13 حتى الـ14، بينما تشير أدلة إلى وجود احتلال سابق من قبل حضارات يعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وفق منظمة "يونسكو" التابعة للأمم المتحدة.
تكرار الزيارة
لا يكتفي أهالي حلب بالجلوس في الساحة، بل يواظب كثير منهم على زيارة القلعة والتجول داخلها باستمرار. الدافع لتكرار زيارة قلعة حلب هو "الشوق"، إذ "لا يكتفي المحب للنظر مرة أو اثنتين إلى محبوبته"، وفق تعبير عمر. وأشار إلى أنه يعتزم اصطحاب أولاد أخيه، الذين ولدوا خارج سوريا، لزيارة القلعة والأماكن التاريخية الأخرى.
وبحسب ما رصدته عنب بلدي، تبلغ تكلفة الدخول إلى قلعة حلب خمسة آلاف ليرة سورية للمواطن السوري أو من في حكمه، أي أقل من نصف دولار، بينما تبلغ تكلفة دخول الأجنبي 50 ألف ليرة، أي ما يعادل 4.5 دولار.
تاريخ يعود لثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد
يعود استخدام تل القلعة إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد على الأقل، حين كان هناك معبد للإله القديم هدد، بحسب موقع "castles.nl". ويُقال إن سكان حلب لجؤوا إلى القلعة خلال القرن السابع الميلادي، لأن أسوار المدينة كانت في حالة "يرثى لها" وفق الموقع ذاته. وفي عام 636 ميلاديًا، دخل جيش المسلمين إلى حلب، وأُجريت إصلاحات لاحقة للقلعة بعد زلزال كبير تعرضت له المدينة في تلك الفترة. وتعاقبت الدول والحضارات منذ ذلك الحين، إلى بداية نشوء الدول الحديثة، بدءًا بالحمدانيين والزنكيين والأيوبيين، مرورًا بالمغول، ووصولًا إلى العثمانيين.
وخلال العهد العثماني، تضاءل الدور العسكري للقلعة كحصن دفاعي تدريجيًا، إذ استخدمت ثكنة للجنود العثمانيين، حتى بداية فترة الانتداب الفرنسي، في النصف الأول من القرن الـ20. تحتوي القلعة على بقايا مساجد وقصور وحمامات، وتحمل المدينة المسوّرة التي نشأت حول القلعة أدلة على تخطيط الشوارع اليوناني الروماني المبكر، كما تحتوي على بقايا مبانٍ مسيحية من القرن السادس الميلادي. وتضم أسوارًا وبوابات من العصور الوسطى، ومساجد ومدارس من العصور الأيوبية والمملوكية، ومساجد وقصورًا لاحقة من العصر العثماني، بحسب "يونسكو".