الأحد, 7 سبتمبر 2025 01:31 PM

ملف القروض المتعثرة في سوريا: قنبلة موقوتة تهدد الاقتصاد والمجتمع

ملف القروض المتعثرة في سوريا: قنبلة موقوتة تهدد الاقتصاد والمجتمع

بقلم: ناظم عيد. يبدو أن وزير المالية السوري قد أقدم على خطوة جريئة بمحاولته معالجة ملف القروض المتعثرة، الذي يعتبر من بين أعقد المشاكل التي تواجه الاقتصاد السوري المنهك، نتيجة للفساد وسوء الإدارة. وعلى الرغم من أن الوزير محمد يسر برنية، الذي عاد بعد التحرير، لديه بعض المعرفة بخلفيات هذا الملف، بحكم عمله السابق في مجلس إدارة هيئة الأوراق والأسواق المالية قبل الثورة، إلا أنه من الضروري أن يكون الجميع على دراية بالتفاصيل الكاملة للتعامل بشكل صحيح مع هذه الإشكالية التي بدأت اقتصادية، ولكنها أصبحت ذات تداعيات اجتماعية.

في عام 2017، شهدت سوريا حدثاً كبيراً، حيث استيقظت البلاد في 3 نيسان على أخبار عن تشكيل لجنة برقم 352 للتحقيق في ملفات القروض المتعثرة التي تتجاوز قيمتها 200 مليار ليرة سورية (كان سعر صرف الدولار حينها حوالي 500 ليرة سورية، بينما كان استجرار القروض بسعر صرف 48 ليرة للدولار). ترأس اللجنة حينها قيس خضر، أمين عام مجلس الوزراء، وعضوية عبد الرزاق قاسم، الرئيس التنفيذي لسوق دمشق للأوراق المالية، ومازن يوسف، وزير الصناعة (بصفته رئيساً سابقاً للجهاز المركزي للرقابة المالية). انبثق عن اللجنة 352 لجان فرعية لكل مصرف من المصارف المانحة، تتألف كل لجنة من أستاذ جامعي وممثل عن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، إضافة إلى ممثل عن إدارة قضايا الدولة، وباشرت اللجان أعمالها بشكل مبهم ومرتجل، وأصدرت خلال أقل من 15 يوماً قرارات بكف يد أعداد كبيرة من موظفي المصارف، وحجوزات على أملاك كبار المقترضين مع منع سفرهم خارج البلاد. اللافت أن قرارات كف اليد ظهرت بتوقيع وزير المالية "مأمون حمدان"، الأمر الذي أثار الاستغراب، لأن مثل هذه القرارات تصدر عادة عن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.

بدأت القصة بهمسة من مازن يوسف، الذي عُين وزيراً للصناعة بعد أن كان رئيساً للجهاز المركزي للرقابة المالية، في أذن عماد خميس، رئيس مجلس الوزراء، حول وجود كتلة أموال هائلة ممنوحة على شكل قروض لصناعيين ومستثمرين كبار بات من الصعب تحصيلها. كان كل من مازن يوسف وعماد خميس يبحثان عن نقاط قوة لتعزيز حضورهما في منصبيهما الجديدين. ثم نُقلت الأخبار إلى بشار الأسد، الذي وجه بما يشبه "تسونامي" في وجه كبار المقترضين، وهم رجال أعمال ذوو ثروات كبيرة وأصحاب أصول استثمارية ضخمة. كانت هذه بداية لسلسلة طويلة من الابتزاز لكبار المتمولين، والتي لم تنته إلا مع سقوط النظام السابق.

بطريقة أو بأخرى، تمت تسوية الجزء الأكبر من الملف بكل ما انطوى عليه من ابتزاز و"علاوات"، ولم يتبق إلا القروض الممنوحة من بنك الاستثمار الأوروبي، وهو الملف الأكثر تعقيداً. كان الاتحاد الأوروبي قد قرر في وقت سابق منح تسهيلات وتمويل لمشروعات استثمارية في سوريا عبر بنك الاستثمار الأوروبي، وأُنشئت حلقة وسيطة في سوريا اسمها "وحدة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة". تقوم هذه الوحدة بدور الوكيل، وتوجه المقترضين بعد إعداد استمارات القروض نحو مصرفين حكوميين هما البنك التجاري السوري والبنك العقاري، لإدارة ملف القروض لجهة دراسة الملاءة والضمانات، ثم منح مبلغ القرض مع التعهد بتحصيل الأقساط وتحويلها إلى البنك الأساسي المانح "بنك الاستثمار الأوروبي". القروض تمنح باليورو والدولار، وليس بالليرة السورية. ومع أزمات الليرة المتتالية، أصبح من المتعذر على المقترضين تسديد التزاماتهم (من سعر صرف 45 ليرة مقابل الدولار إلى 15 ألف ليرة قبل التحرير)، وبقي هذا الجزء من الملف عالقاً، وهو أحد التحديات أمام لجنة التسوية التي أعلنها وزير المالية منذ أيام.

من كبار المقترضين إلى صغارهم، أصبح المشهد أكثر تعقيداً، ويثير حالة من الترقب للطريقة التي ستُعالج بموجبها. تقف الحكومة اليوم أمام طيف واسع من المقترضين الحاصلين على قروض صغيرة باسم "القرض الشخصي"، وهو منتج مصرفي جديد ابتُكر في الأوساط المصرفية الحكومية بعد إقلاع المصرف المركزي عن سياسات الإقراض المتحفظة، وإطلاق حرية المصارف لتعويض خساراتها الناجمة عن عدم السماح لها بمنح قروض تشغيلية لسنوات طويلة، بسبب مخاطر الاستثمار والأفق الضبابي للبلاد، مع اضطرارها لقبول الإيداعات، ودفع فوائد بمعدلات عالية. كان القرض الشخصي نافذة النجاة الوحيدة، وشرعت البنوك عبرها بالإعلان عن قروض اعتبرها المواطن السوري "المخنوق" فرصة لترميم بنية حياته المشوهة. كان البنك التجاري السوري "أكبر بنك" صاحب المبادرات الأكثر جذباً للزبائن، وأكبر المانحين للقروض الشخصية بسقوف وصلت إلى 50 مليون ليرة سورية بضمانات عقارية، و25 مليون ليرة بضمانات شخصية وكفلاء تسديد، في حين كانت السقوف لدى مصرفي التسليف والتوفير 7 مليون ليرة للموظفين، وتصل إلى 15 مليون ليرة مع ضمانات. وكذلك كان حال البنك العقاري.

كان لافتاً تهافت العسكريين للحصول على القروض الشخصية، بما أن العسكري لم يكن في عداد الزبائن المفترضين للبنوك، "لا يحق له الحصول على قرض بنكي"، لكن قرارات السماح والمبالغ الكبيرة أشعلت شهية كل عسكري للسعي إلى ما يتيسر له من البنوك، وكانت الحصيلة عشرات آلاف المقترضين. اليوم بعد التحرير والتسريح الأوتوماتيكي للجيش، بات جميع هؤلاء أصحاب القروض المتعثرة التي تشكل أزمة حقيقية يترقب الطريقة التي ستجري بموجبها المعالجات. وفي ذات الاتجاه، ثمة أعداد كبيرة من موظفي القطاع العام الحاصلين على قروض وفقدوا وظائفهم في عداد المقترضين المتعثرين، وهؤلاء أيضاً يشكلون نسبة غير قليلة من حجم المشكلة التي تعقد الطريق المؤدية إلى حل سلس.

يترقب السوريون الطريقة التصالحية التي سيصار عبرها إلى حل مشكلة القروض المتعثرة، والتي يختلط فيها الاعتبار الاقتصادي بالآخر الاجتماعي وامتداداته المتشعبة. ويتوقع متابعون وخبراء أن يكون ثمة مفاجآت على صعيد الحلحلة، قد تتمثل بالإعادة التدريجية للمسرحين من أعمالهم، أو السماح لهم بإجراءات تقاعد نظامية، والحصول على رواتب تقاعدية يسددون بواسطتها أقساط قروضهم، خصوصاً أنه لا ضمانات من قبيل الأصول والممتلكات لدى هؤلاء، أو معظمهم، يمكن أن تكون وسيلة تعويض لمبلغ القرض مع فوائد أو بدون.

(أخبار سوريا الوطن1-المدن)

مشاركة المقال: