أثارت المناورة العسكرية التي نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر مطلع هذا الأسبوع، تقديرات متباينة حول مستقبل الصراع في المنطقة وقدرة تل أبيب على فرض معادلات ردع جديدة. هل تجد إسرائيل نفسها في مسرح عمليات أكبر من قدرتها على السيطرة؟
المناورة، التي ركزت على اعتراض الصواريخ الباليستية والمسيّرات المفخخة وتأمين الممرات البحرية في ظل تهديدات حركة «أنصار الله» في اليمن، بدت أقرب إلى رسالة سياسية منها إلى عملية عسكرية مباشرة. تأتي المناورة في إطار «ردع إيران والحوثيين» وفقاً لإسرائيل، وتعيد تسليط الضوء على هشاشة التوازنات القائمة في البحر الأحمر، حيث تتقاطع مصالح قوى إقليمية ودولية متناقضة.
في هذا الوقت، اختارت الولايات المتحدة النأي بنفسها عن أي تصعيد إضافي بين إسرائيل و«أنصار الله». أكد مسؤولان أميركيان لموقع «المونيتور» أن «واشنطن لم تقدم أي دعم استخباراتي أو عملياتي للغارات الإسرائيلية الأخيرة قرب صنعاء»، ما يعكس وجود فجوة في الأولويات. بينما تحدث وزير حرب العدو، يسرائيل كاتس، عن فرض «حصار جوي وبحري على الحوثيين واستهداف مواقع للطاقة والبنية التحتية التابعة لهم»، أقر المسؤولان بأن «الحوثيين فرضوا حصاراً غير تقليدي، لكنه مؤثر، على إسرائيل».
في الصورة الأعم، يتبلور محور غير معلن يجمع الصين وروسيا وإيران وحركة «أنصار الله» في اليمن، في البحر الأحمر الذي تختلط فيه الاستثمارات الاقتصادية بالحضور العسكري والعمليات غير التقليدية. يمكن وصف هذا المحور بأنه تحالف رمادي أو غير رسمي، يمتلك أوراق تأثير مباشرة في ممرات بحرية رئيسة. لا يقوم هذا التحالف على معاهدات مكتوبة أو هياكل تنسيق رسمية، بل على شبكة مصالح متشابكة تسمح لكل طرف بالاستفادة من قدرات الآخر مع الحفاظ على حرية المناورة.
مناورة إسرائيل العسكرية الأخيرة في البحر الأحمر مجرد تفصيل في مشهد عالمي أكثر تعقيداً.
تمثل الصين قلب هذا المحور؛ فمنذ افتتاح قاعدتها العسكرية في جيبوتي عام 2017، وسعت بكين وجودها العسكري والاقتصادي في البحر الأحمر والمحيط الهندي عبر شبكة متكاملة من الموانئ والمشاريع الإستراتيجية، تشمل استثمارات في العين السخنة وبورسعيد، وتمويل ميناء مصوع الإريتري وربطه بميناء عَصَب، ومشاريع في بورتسودان، وتوسعة ميناء جدة، وسكة حديد جيبوتي – أديس أبابا. تمنح هذه الشبكة بكين سيطرة لوجستية متقدمة على خطوط الإمداد بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتضعها في موقع يمكنها من ممارسة ضغوط مباشرة على الغرب في أي مواجهة محتملة.
إلى جانبها، تؤدي إيران دور المزوّد بالطاقة والمحرك الإقليمي، حيث تشتري الصين أكثر من 90% من صادرات الأولى النفطية رغم العقوبات، ما يتيح لطهران تمويل مشاريعها وتطوير ترسانتها. في المقابل، توفر إيران ضمانات لأمن الملاحة الصينية عبر الممرات المائية (هرمز وباب المندب)، فيما تتعامل «أنصار الله» مع السفن الصينية بصفة «محايدة»، بما يعزز الثقة المتبادلة. تستفيد روسيا، بدورها، من هذه الممرات لكسر الحصار الغربي المفروض عليها منذ حرب أوكرانيا، وتقدم دعماً استخباراتياً وتقنياً لشركائها في هذا المحور، ما يزيد من متانة التفاهم غير المعلن في ما بينهم.
أكثر ما يميز هذا التحالف هو قدرته على العمل في المنطقة الرمادية؛ فلا التزامات رسمية يمكن استهدافها، ولا خطوط حمراء واضحة يمكن التفاوض حولها. تحدثت تقارير استخباراتية غربية عن إمدادات صينية متطورة لـ«أنصار الله»، من صواريخ وطائرات مسيّرة، مقابل ضمان أمن السفن الصينية، بينما عززت زيارات وفود الحركة إلى بكين بين 2023 و2024 الانطباع بوجود تعاون عملياتي يتجاوز الإطار الاقتصادي.
في المقابل، بقي الرد الأميركي والأوروبي محصوراً بالأدوات التقليدية؛ إذ اعتمدت الولايات المتحدة على الضربات الجوية المكثفة ضد صنعاء في أثناء حرب الـ50 يوماً الأخيرة، من دون أن تعالج جذور المشكلة، أي تدفق الإمدادات عبر شبكات الدعم الإقليمي والدولي، فيما أوروبا، ورغم اعتمادها المباشر على البحر الأحمر الذي تمر عبره 40% من تجارتها مع آسيا، بدت لاعباً ثانوياً بلا سياسة موحدة، تتأرجح بين الارتهان للمظلة الأمنية الأميركية والخشية من الإضرار بمصالحها الاقتصادية مع الصين. في هذا الإطار، أظهر اتهام برلين، بكين باستهداف طائرة أوروبية خلال عملية بعثة «أسبيدس» الأوروبية، ونفي الأخيرة ذلك بشكل قاطع، هشاشة الدور الأوروبي وعجزه عن فرض معايير أمنية مستقلة في مناطق بعيدة عن محيطه المباشر.
إزاء ذلك، تصبح المناورة الإسرائيلية في البحر الأحمر حلقة صغيرة ضمن سلسلة أوسع تتجاوز قدرات تل أبيب الذاتية. فبينما تحاول إسرائيل تقديم نفسها كقوة قادرة على حماية طرق الملاحة وردع «أنصار الله»، فإن الواقع يقول إن أي تغيير فعلي في موازين القوى البحرية لا يتم إلا عبر التفاعلات الكبرى بين واشنطن وبكين وموسكو وطهران، ومعها اللاعبون غير التقليديون مثل «أنصار الله».