أثار بيان وزارة الخارجية السورية حول إجراء مفاوضات مع إسرائيل ردود فعل واسعة النطاق، تراوحت بين التفهم والرفض. من الضروري الإشارة إلى أن عملية التفاوض بين خصمين ليست مستغربة في عالم السياسة. هذه ليست المرة الأولى التي تجري فيها دمشق مفاوضات علنية مع إسرائيل. فقد شهدت توقيع اتفاق الهدنة عام 1949، والتوصل إلى اتفاق فك الاشتباكات أو فصل القوات في الجولان عام 1974 بعد مفاوضات صعبة. كما جرت مفاوضات في إطار مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، والتي انتهت بالفشل، ولا يمكن إغفال مفاوضات واي بلانتشين عام 1996، التي لم تسفر عن أية نتيجة.
يشير هذا الاستعراض السريع لعمليات التفاوض مع إسرائيل إلى أنه ليس من الحتمي أن تؤدي مفاوضات باريس إلى النجاح. تجدر الإشارة إلى أن معظم عمليات التفاوض هذه تمت برعاية أمريكية. فمفاوضات فصل القوات رعاها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، والذي قام برحلات مكوكية بين دمشق وتل أبيب، وقضى 130 ساعة مفاوضًا في دمشق. وجولة واي بلانتشن تمت في الولايات المتحدة برعاية مباشرة من البيت الأبيض. واليوم، يقوم توم باراك، ممثل الرئيس الأمريكي، بدور حاسم في مفاوضات باريس.
المفاوضات الرسمية بين سوريا وإسرائيل ليست نادرة، لكن الأخطر هي الاتصالات السرية التي كانت تتم في الظلام، والتي أجراها نظام الأسد الأب والابن مع إسرائيل، والتي حددت طبيعة العلاقة بين ذلك النظام وإسرائيل. على الرغم من ندرة المعلومات عن تلك الاتصالات، إلا أننا كنا نلمس نتائجها على امتداد عقود. فبموجب تلك الاتصالات السرية، حظي حافظ الأسد بمباركة غربية وإسرائيلية في الوصول إلى السلطة. ونتيجة لتلك الاتصالات، منع النظام الأسدي أي تسلل أو إطلاق نار عبر خطوط وقف إطلاق النار في الجولان. كما باركت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت عملية توريث الحكم في سوريا عام 2000، إثر تعهدات حصلت عليها خلال اجتماعها الطويل والمغلق مع الوريث بشار الأسد.
المفاوضات العلنية لا تثير القلق، المشكلة كانت في الصفقات التي أبرمت بعيدًا عن الأضواء في الغرف السرية. حسناً فعلت وزارة الخارجية السورية بالإعلان رسميًا عن مفاوضات باريس، فقد تم عبر هذه الخطوة قطع دابر الشك والتأويل المفخخ والتلفيق والقيل والقال.
بالعودة إلى عملية المفاوضات الباريسية نفسها، فقد تم تحديد أهدافها بخفض التصعيد في المنطقة الجنوبية، والعودة إلى اتفاق فك فصل القوات عام 1974، مع التأكيد على احترام استقلال سوريا وحماية وحدة أراضيها وسيادتها. والشيء الجديد هنا هو أن الموقف السوري في تلك المفاوضات ليس ضعيفًا، بل يستمد قوته من الدعم الكبير الذي توفره قوى عربية وإقليمية كبيرة لاستقرار سوريا ونهوضها، واحترام سيادتها على كل أراضيها. وهناك نقطة إيجابية أخرى تتمثل في أن الولايات المتحدة الأمريكية، راعية هذه المفاوضات، قد أعلنت دعمها لاستقرار سوريا ووحدة أراضيها.
سيكون الموقف السوري في تلك المفاوضات أقوى لو سارعت الحكومة السورية بحل مشكلة السويداء وقسد عبر الحوار، وزادت من انفتاحها على كل مكونات المجتمع السوري ووسعت مبدأ التشاركية. الوحدة الوطنية هي السلاح الأمضى لخوض المعارك السياسية والاقتصادية والانتصار فيها.
أختم بالتذكير بأننا نتفاوض مع عدو يحتل أرضنا ويهدد وجود سوريا، عدو مارس الغدر والعدوان، وارتكب جرائم بحق شعبنا وبحق فلسطين والعرب. على المفاوض السوري أن تكون تلك الصورة حاضرة في ذهنه، وألا ينخدع بكلمات معسولة قد يتفوه بها المفاوض الإسرائيلي عن السلام والاستقرار وحسن الجوار. فالغدر والنكوث بالعهود والحقد على كل ما هو عربي ومسلم كانت على الدوام هي السمات التي تميز السياسة الإسرائيلية، لاسيما الآن.
(أخبار سوريا الوطن1-الوادي للدراسات الأسيوية)