عنب بلدي – شعبان شامية – أكدت موسكو خلال الأسابيع الأخيرة سعيها لضمان مصالحها في سوريا وعدم خسارتها الاستراتيجية بعد سقوط نظام الأسد، الذي كانت تعتبره حليفها الأقوى. تسعى روسيا إلى إقامة توازنات جديدة في علاقتها مع الحكومة الحالية في دمشق، للحفاظ على مكاسبها السابقة، بما في ذلك الوجود العسكري على البحر المتوسط.
بالمقابل، تسعى الحكومة الانتقالية في دمشق إلى تغيير طبيعة شراكاتها وعلاقاتها مع روسيا، بعيدًا عن الدور الذي لعبه نظام الأسد في ملفات التسليح ودعم العمليات العسكرية ضد المعارضة واستهداف المدن، خاصة في الشمال السوري، نحو تعاون وتنسيق أمني.
حول تفاصيل زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى موسكو ولقائه نظيره الروسي سيرغي لافروف والرئيس فلاديمير بوتين في 31 تموز الماضي، أوضح الخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي، ديمتري بريجع، أن دمشق أبدت اهتمامًا بعودة دوريات الشرطة العسكرية الروسية إلى محافظات جنوبي سوريا، على غرار ما كان قبل سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول 2024.
أشار بريجع إلى أن التحركات الروسية الأخيرة في القامشلي شمال شرقي سوريا جرت دون مشاركة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مما يعكس بداية مرحلة جديدة في الملفين العسكري والأمني بين موسكو ودمشق.
وأوضح أن الاستعانة بالشرطة العسكرية الروسية يهدف إلى الحد من الاختراقات الإسرائيلية وإدارة خطوط التماس جنوبًا.
علاقة جديدة.. ما طبيعتها؟
صاغ فريق سوري-روسي مشترك جوهر هذه المرحلة الجديدة، وكان لماهر الشرع، الأمين العام لرئاسة الجمهورية السورية، الدور الأبرز في هندسة قنوات الاتصال الأمنية ووضع قواعد الاشتباك السياسية مع موسكو، بحسب بريجع.
ويرى أن دور ماهر الشرع مكّن وزارة الخارجية السورية، برئاسة أسعد الشيباني، ووزارة الدفاع بقيادة اللواء مرهف أبو قصرة، من تحويل التفاهمات السياسية إلى ترتيبات ميدانية منضبطة.
وصف بريجع ماهر الشرع بأنه "ضابط الإيقاع بين المؤسستين الأمنية والدبلوماسية"، إذ يمنح الغطاء السياسي للخطط الميدانية ويضمن بقاء القناة الروسية جزءًا من منظومة الأمن الوطني.
يرى بريجع أن دمشق تعتبر عودة الدوريات الروسية في الجنوب تخدم غرضين رئيسين: تقليص النشاط العسكري الإسرائيلي ومنع التغلغل داخل العمق السوري، وإدخال عنصر ضبط خارجي موثوق على خطوط التماس لمنع انفلات الوضع المحلي والمناطقي.
ولفت إلى أن موسكو تعتبر هذه الخطوة فرصة لاستعادة دورها الضابط جنوبًا، مع الحفاظ على وجودها الاستراتيجي في طرطوس وحميميم بريف اللاذقية، وتوسيع هوامش الوساطة عند الحاجة.
وأكد أن اهتمامات روسيا في الشرق الأوسط تحول دون تسليم قواعدها العسكرية في سوريا، إذ تعد هذه القواعد أساس دورها ونفوذها في المنطقة.
مصالح روسيا
يعد تمسك موسكو بقواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم اختبارًا حقيقيًا لمستقبل العلاقة، فبينما تعتبر روسيا هذه المنشآت مرتكزات استراتيجية على المتوسط، ترى دمشق أن الحفاظ على السيادة يقتضي إعادة النظر في شروط استخدام هذه القواعد.
وتابع أن سوريا تبحث عن نموذج يضمن التنسيق الأمني دون الإخلال بالتوازن الاستراتيجي للدولة السورية، مما يستدعي تطوير نموذج قانوني جديد يحوّل الوجود الروسي من واقع مفروض إلى شراكة مدروسة تحكمها شفافية وجداول زمنية وآليات رقابة سورية داخلية.
وعلى المستوى الإقليمي، تؤكد موسكو أنها ماضية في سياسة الحضور المتوازن في الشرق الأوسط، وأن الدفاع عن وحدة الأراضي السورية يمر بترتيبات أمن حدودي جنوبًا وتنسيق مدروس مع العواصم المؤثرة.
وحول تعامل الولايات المتحدة وإدارة ترامب مع المشهد الجديد في العلاقات السورية-الروسية، رجّح بريجع التعامل الأمريكي ببراغماتية حذرة، مع التركيز على حماية قواتها شرقي سوريا ومنع توسع النفوذ الإيراني جنوبًا، والحفاظ على قنوات فك الاشتباك مع الروس.
ويرى أن الولايات المتحدة قد تجد في عودة الدوريات الروسية أداة لاستقرار تكتيكي، إذا ضمنت عدم المساس بمصالحها وحرية عملها ضد تنظيم "الدولة".
في حين يربط الموقف الإسرائيلي تقييمه للخطوة الجديدة بين موسكو ودمشق بطبيعة التفاهمات مع موسكو ومدى القدرة على الحد من التمدد الإيراني.
وبهذه الخطوة، تؤكد موسكو استمرار استراتيجيتها الشرق أوسطية والدفاع عن وحدة الجغرافيا السورية عبر ترتيبات ضبط أمني تحقق الردع وتوسع هوامش الوساطة الإقليمية.
عودة الدوريات الروسية
يرى بريجع أن عودة الدوريات العسكرية الروسية برفقة قوات الأمن الداخلي السورية في المنطقة الساحلية تأتي لـ"تأمين تلك المناطق وتقوية الدور الأمني الروسي".
وكانت صحيفة "كوميرسانت" الروسية ذكرت نقلًا عن مصادر أن الحكومة السورية أبدت اهتمامًا بعودة دوريات الشرطة العسكرية الروسية إلى المحافظات الجنوبية من سوريا.
وترى دمشق في هذه الخطوة وسيلة للحد من النشاط العسكري الإسرائيلي الذي يسيطر منذ نهاية 2024 على أجزاء من الجنوب السوري ويقيم فيها منطقة عازلة بحجة حماية حدوده الشمالية والطائفة الدرزية المحلية، بحسب الصحيفة.
ونقلت "كوميرسانت" عن مصدر حضر اجتماع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، مع الجالية السورية في موسكو مطلع آب الحالي، أن عودة روسيا إلى مواقعها السابقة قد "تمنع إسرائيل من التدخل في الشؤون السورية".
ويعتقد المصدر أن موسكو قادرة أيضًا على تنظيم العلاقات بين الحكومة السورية الانتقالية والإسرائيليين.
ولفتت الصحيفة إلى أنه بعد تغيير السلطة في دمشق ووصول أحمد الشرع لسدة الحكم، احتل الجيش الإسرائيلي جزءًا من المناطق الجنوبية من سوريا، معلنًا عن إنشاء منطقة عازلة بهدف مُعلن وهو ضمان أمن حدود إسرائيل وحماية الطائفة الدرزية.
وفي الوقت نفسه، اضطرت روسيا إلى الحد من وجودها العسكري في المنطقة.
وعزا مصدر "كوميرسانت" تنامي النشاط الروسي في القامشلي شمال شرقي سوريا إلى تعزيز التعاون بين الحكومة السورية وموسكو، لافتًا إلى أن الدوريات جرت من دون مشاركة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي لم تتوصل حتى الآن إلى اتفاق مع الحكومة بشأن وضع مناطق الأكراد.
وبحسب خبراء روس، فإن الوجود الروسي في محافظات جنوبي سوريا بمرحلة ما قبل تغيير السلطة في دمشق كان "يلبي المصالح الإسرائيلية"، معتبرين أن "وجود الدوريات الروسية كان من شأنه منع نشر مجموعات موالية لإيران في الجنوب، لكنه كان من الصعب تحقيق ذلك بسبب انعدام معيار واضح لتحديد ما القوات المرتبطة بإيران".
وفي 31 من تموز الماضي، وصل وزير الخارجية والمغتربين، أسعد الشيباني، إلى العاصمة الروسية موسكو، برفقة وفد رسمي، والتحق به بعد وصوله بساعات وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، الذي عقد اجتماعًا مطولًا مع نظيره الروسي، أندريه بيلاوسوف.
والتقى الشيباني نظيره الروسي سيرغي لافروف، ولاحقًا استقبله الرئيس فلاديمير بوتين في "الكرملين"، إذ أكد الطرفان خلال اللقاء على انطلاق مرحلة جديدة من الشراكة السورية-الروسية تقوم على احترام السيادة ودعم وحدة الأراضي، وعلى رفض موسكو أي تدخلات إسرائيلية في سوريا.