في قلب العاصمة دمشق، يتربع مشفى دمشق (المجتهد) كأحد أقدم وأكبر المستشفيات العامة في البلاد، إذ يضم نحو 500 سرير، ويشمل 35 شعبة وقسمًا طبيًا، ويُعتبر ملاذًا صحيًا لآلاف المرضى من مختلف المحافظات السورية.
قبل التحرير: نظام منهك وأجهزة خارج الخدمة
قبل التحرير، كان المشفى يعاني من وضع مأساوي؛ إذ لم يكن يملك الحد الأدنى من المستلزمات الطبية، وكانت معظم الأجهزة خارجة عن الخدمة أو منتهية الصلاحية منذ أكثر من عشر سنوات. وبسبب غياب الدعم من وزارة الصحة آنذاك، لم تصل أي شحنات رسمية، ما دفع الإدارة للاعتماد على عقود محلية محدودة. العبء الأكبر وقع على كاهل المرضى الذين اضطروا لتأمين حاجاتهم من الصيدليات الخاصة خارج أسوار المشفى.
على طريق النهوض
اليوم، وبعد التحرير، بدأت تتضح ملامح تحوّل إيجابي في بنية المشفى وآلية عمله، فالتغييرات الإدارية لعبت دورًا حاسمًا في إعادة ضبط إيقاع العمل الطبي، إذ تم اعتماد آلية فرق العمل، وتنشيط الدور المجتمعي في دعم المشفى، سواء من خلال التبرعات الفردية من المغتربين أو تدخلات المنظمات والجمعيات الصحية، ما أفضى إلى تزويد المشفى بعدد من الأجهزة الحيوية، مثل أجهزة غسيل الكلى وطاولات العمليات. في هذا السياق، أوضحت ولاء ناصر، رئيسة مكتب العلاقات العامة والإعلام، أن الانفتاح على الإعلام والمجتمع المدني والوفود الأجنبية ساهم بشكل مباشر في تحسين صورة المشفى واستقطاب الدعم، مؤكدة أن "ما تحقق خلال أشهر لم يكن ممكنًا لولا تغيير الذهنية الإدارية وتفعيل دور التواصل المجتمعي".
التحديات باقية… ولكن الأمل حاضر
رغم هذه التحسينات، لا تزال التحديات قائمة؛ فالمستلزمات الطبية لا تغطي حجم الإقبال الكبير، وواقع أقسام العناية المركزة والتعقيم وخزانات المياه لا يزال هشًّا، حيث يوجد فقط جهاز أشعة واحد، في حين أن جهازًا ثانيًا وصل لكنه لم يُفعّل بعد بسبب نقص الكوادر الفنية القادرة على ربطه بالنظام. جهاز الرنين ما يزال معطّلًا ويحتاج إلى صيانة متقدمة، وقد تم تزويد المشفى بغسالتين لتعقيم وغسيل الملابس، إلا أن النقص في المواد المستهلكات الطبية، مثل الشاش، وغيرها، ما يزال يشكل عبئًا يوميًا على الكادر والمرضى على حد سواء، رغم بدء تدخلات حكومية وأهلية لسد هذا النقص.
تطور علمي ومناخ مهني محفّز
من أهم التحولات التي شهدها المشفى أيضًا تحسّن بيئة العمل الطبي، خصوصًا في تدريب الأطباء المقيمين، الذين كانوا سابقًا مهمّشين ولا يستفيدون من خبرات الأخصائيين. أما اليوم، فقد بدأت ثقافة العمل الجماعي تنتشر، وصار للمقيمين دور فعّال في أقسام الجراحة والكلية وغيرها، مما انعكس على جودة الخدمة ومستوى الرعاية. يقول الدكتور محمد الأكتع، رئيس مكتب الجاهزية، إن المشفى قبل التحرير كان تحت الصفر، ويعاني من تقنيات منهارة وبُنى مهترئة، مضيفًا أن "التغييرات الإدارية قلّصت الفساد ورفعت من جودة الأداء، حتى صار الأطباء يعملون بإرادتهم لا تحت وطأة الروتين القديم".
واقع الأطباء المقميمن
من جانبه، يصف الدكتور حسين جويد، المقيم في قسم الجراحة العظمية، واقع الأطباء المقيمين بأنه كان شديد القسوة؛ فالدخل لم يتجاوز 60 دولارًا شهريًا، بينما كانت المناوبات تمتد أحيانًا إلى 36 ساعة متواصلة، ما دفع الكثير من زملائه إلى البحث عن مصادر دخل بديلة في الأرياف أو المراكز الصحية مقابل أجور بسيطة. ويشير إلى أن الوضع الآن في تحسّن تدريجي، خاصة بعد رفع الأجور وتحسين المناخ التدريبي، مع فتح أبواب التعاون العلمي عبر الوفود الطبية الدولية والمنظمات المختصة.
نظرة مستقبلية: نحو نموذج متكامل من الخدمة العامة
رغم ضخامة التحديات، تُبدي إدارة المشفى ثقة بأن المستقبل يحمل تطورًا نوعيًا، خاصة في حال تفعيل ملفات التعاون الدولي ورفع العقوبات. تؤكد ولاء ناصر أن الهدف هو تحويل مشفى دمشق إلى نموذج وطني قادر على تقديم خدمة بجودة مشافٍ خاصة، لكن بروح الخدمة العامة المجانية، وبنسبة فندقة مقبولة تضمن الاستدامة المهنية وتكافؤ الجودة.
جذور المكان: من حجر الأساس إلى الأمل المتجدد
تعود جذور مشفى دمشق، المعروف باسم المجتهد، إلى عام 1947 حين وضع الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي حجر الأساس له، في خطوة رائدة لبناء صرح طبي وطني في قلب العاصمة. وبعد سنوات من العمل، افتُتح المشفى رسميًا عام 1955 بحضور الرئيس القوتلي نفسه، وكان تابعًا حينها لوزارة الصحة والإسعاف العام. حمل المشفى اسمه من منطقة المجتهد في حي الميدان، التي سُميت تيمنًا بعائلة آل المجتهد القادمة من مكة، وقد شُيّد المشفى على الطراز الفرنسي الكلاسيكي، على شكل فراشة معمارية تسمح بدخول الشمس من جميع الجهات، مع جدران سميكة من الحجر والطوب لتوفير العزل الحراري والصوتي، مما يجعله تصميمًا مثاليًا لبيئة استشفائية. كما اختير موقعه في منطقة كانت تُعرف آنذاك بـ"البساتين"، لما تتمتع به من هواء نقي جعلها أنسب موقع لبناء مركز صحي متكامل.