الجمعة, 30 مايو 2025 09:26 AM

شغف لا يعرف عمراً: ستيني من كوباني يحقق حلمه بتعلم اللغة الكردية في الجامعة

شغف لا يعرف عمراً: ستيني من كوباني يحقق حلمه بتعلم اللغة الكردية في الجامعة

فتاح عيسى – كوباني

في أحد صفوف جامعة كوباني، يجلس محمد جاسم، الرجل الستيني، إلى جانب زملاء يصغرونه بعقود، قد يبدو مشهدًا غير مألوف، لكن بالنسبة لجاسم، البالغ من العمر 62 عاماً، فإن العودة إلى مقاعد الدراسة ليست مغامرة مؤقتة، بل رحلة شغف متأخرة بدأت أخيراً تؤتي ثمارها.

رحلة متأخرة “للبحث عن الهوية”

ينحدر “جاسم” من حي “كانيا مشدي” في مدينة كوباني شمالي سوريا، ويعمل حالياً كمعلم في إحدى المدارس. وقرر الستيني الذي يرى أن العلم حياة، ليبدأ من جديد، ليس بحثاً عن شهادة فقط، بل سعياً لاكتشاف ذاته من خلال لغته الأم (الكردية)، التي لطالما حُرم من تعلمها رسميًا في المدارس لعقود طويلة.

ورغم التزاماته المهنية والعائلية، اختار أن يلتحق بقسم اللغة والأدب الكردي الذي افتتحته جامعة كوباني في العام الدراسي 2024-2025، والمخصص للكوادر التعليمية الراغبة في تطوير مستواها الأكاديمي. يقول “جاسم”: “بعد تحرير كوباني، شعرت بأنه لم يعد هناك ما يمنعني من تعلم لغتي الأم، التي طالما شعرت بأنها جزء من هويتي المسروقة”.

ويضيف أنه رغم بلوغه هذا العمر يدرس حالياً في الجامعة ونيته إكمال دراسته وتحصيله العلمي قدر الإمكان، فهو يرى في العلم طريق معرفة كل الأماكن والأشياء والمرور بكل التجارب.

ومع أكثر من ستين معلمًا وموظفًا تتراوح أعمارهم بين 25 و62 عاماً، بدأ جاسم عامه الدراسي الأول في الجامعة، يداوم يومي الجمعة والسبت فقط، في برنامج مخصص لا يتعارض مع عمله اليومي في التدريس.

وافتتحت جامعة كوباني قسم خاص لدراسة ليسانس الأدب واللغة الكردية للمدرسين والمعلمين والموظفين في العام الدراسي 2024-2025، على أن تكون الدراسة مقسمة على ستة فصول دراسية.

في البداية تقدم 120 شخصاً للتسجيل من أجل الدراسة فيها (شرط التسجيل أن يكون معلماً أو مدرساً أو موظفاً لدى الإدارة الذاتية) ثم قدم 93 شخصاً أوراقه للدراسة، حالياً بقي 63 شخصاً في الفصل الدراسي الثالث.

ويتضمن القسم 25 مادة دراسية أغلبها مواد علمية وعملية وبحثية وفي حال تخرج الدراسين سيحصلون على شهادة الليسانس في اللغة والأدب الكردي، بحسب جاسم، الذي أشار إلى أن المحاضرات تبدأ في الساعة الثامنة والنصف صباحاً حتى الثالثة والربع بمعدل أربع محاضرات لليوم الواحد أي ثماني محاضرات أسبوعياً خلال يومي الجمعة والسبت فقط.

عوائق سابقة

يتذكر “جاسم” كيف كانت المدارس في الماضي تفرض عليه تدريس الأطفال بلغة لا يفهمونها، ويقول بأسى: “كنا ندرّس بالعربية، وغالبية الأطفال لا يفهمونها، كانوا يحفظون دون أن يستوعبوا، ولهذا كانت نسبة التسرب من المدارس مرتفعة، فالتلميذ لا يستطيع الاستمرار في شيء لا يفهمه”.

إلى جانب صعوبات اللغة، واجه “جاسم”، مثل كثيرين من أبناء كوباني، تمييزاً واضحاً في فرص العمل رغم حصوله على شهادة البكالوريا في عهد النظام السوري السابق، فاضطر للعمل في قرى بعيدة لأن التعيينات في المدينة كانت تُمنح للوافدين من مدن أخرى بسبب “المحسوبيات”، كما يصفها.

ويضيف: “كانوا يجلبون معلمين من حماة وحمص، ويتركون أبناء المدينة بعيدين عن مدارسهم، كنا نُرسل إلى أقاصي الريف، رغم أننا الأجدر بالتدريس في مدينتنا”.

وفي منتصف العمر، التحق جاسم بدورة قصيرة لتعلُّم اللغة الكردية، لكنها لم تكن كافية لإرضاء شغفه، فقرر أن يعتمد على نفسه، يقرأ ويبحث ويكتب، حتى أصبح قادراً على تعليم الأطفال بلغتهم الأم، واليوم، يشعر أن انضمامه للجامعة يمثّل تتويجاً لمسيرة ذاتية شاقة.

ويقول “جاسم”: “واجهت صعوبات كثيرة، منها قلة المصادر والمراجع بالكردية، وأحياناً نعجز عن فهم بعض المصطلحات… لكن الإصرار هو ما يصنع الفرق”.

ويشير إلى أن أكثر ما يُسعده اليوم هو رؤية الأطفال يتلقون تعليمهم بالكردية، قائلاً: “عندما يدرس الطفل بلغته الأم، يفهم، ويتفاعل، ويتطور، وهذا ما كنا نحلم به طويلاً، ما يحدث اليوم هو شعور يشبه الولادة من جديد”.

وفي الخامس عشر من أيار/ مايو من كل عام، تحتفي الأوساط الكردية والمؤسسات التعليمية والثقافية والمعنية باللغة الكردية في مناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا بيوم اللغة الكردية، حيث يعود سبب اختيار هذا اليوم إلى انطلاقة أول مجلة باللغة الكردية في العاصمة السورية دمشق على يد الأمير الكردي جلادت بدرخان عام 1932.

وتمنح تجربة محمد جاسم الستيني الأمل لكثيرين، وتكسر الصورة النمطية عن العمر والتعلم، فالعلم كما يردد دائماً، لا يُقاس بالسن، بل بالرغبة في الفهم والاكتشاف.

تحرير: خلف معو

مشاركة المقال: