د. سلمان ريا ليست الكارثة أن تنهض الشعوب ضد طغاتها، بل أن تنهض ثم تُخلف على عرش التضحيات فراغًا مريعًا، لا يملؤه مشروع ولا تؤسسه رؤية. لقد عرفت سوريا، كما عرف غيرها من الأقطار العربية، ملحمة من أغلى الملاحم المعاصرة: ثورة شعبية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، دفع فيها السوريون أثمانًا لا تُقاس، في مواجهة أحد أكثر أنظمة العالم استبدادًا وبطشًا. لكن التاريخ لا يكتبه فقط من يتقن الرفض والتمرّد، بل من يحسن البناء بعد الخراب، ويشيد المعنى بعد الشعار، ويقيم من ركام الأنقاض جسد الدولة الجديدة.
لقد امتلكت الشعوب العربية على مدار قرن من الزمن طاقة هائلة على تفكيك الأنظمة، لكنها عجزت – إلى حد التكرار المأساوي – عن بناء بديل يليق بتضحياتها. من التحديثيين الذين انشغلوا بمظاهر الدولة دون لبّها، إلى القوميين الذين أسقطوا المستعمر ووقعوا في فخ الاستبداد المحلي، إلى الإسلاميين الذين أرادوا “الخلافة” وعجزوا عن إقامة أبسط مؤسسات الحكم الرشيد. كانت اليد قوية على الزناد، لكنها مرتعشة في البناء؛ وكان الخيال واسعًا في الحلم، ضيقًا في التخطيط.
الثورة السورية ليست استثناءً من هذا السياق، لكنها تقف اليوم عند لحظة فارقة: هل نكرر المأساة ذاتها، أم نكسر الحلقة الجهنمية التي تحيل كل نصر إلى فشل لاحق؟ لقد آن أوان الجهاد الأكبر: جهاد البناء الوطني، جهاد التحول من شعارات الثورة إلى معمار الدولة.
فلا يكفي أن يسقط النظام، إن لم يسقط معه النموذج السياسي الذي أنشأه وأدامه: المركزية القاهرة، والدولة الأمنية، واحتكار القرار، وتهميش الناس، وتجفيف المجتمع الأهلي. المطلوب ليس فقط إسقاط النظام، بل إعادة تعريف النظام برمّته، على أسس جديدة: تعاقد سياسي جامع، لامركزية عادلة، تمثيل حقيقي، وعدالة انتقالية تنصف الضحايا وتمنع تكرار المأساة.
إن من أسوأ ما يُبتلى به الثائر أن يظل رهينًا لذهنيته الثورية حتى بعد سقوط الخصم. فالثورة فعل استثنائي، أما الدولة فحاجة دائمة. الثورة تحتاج إلى الحماسة، أما الدولة فتحتاج إلى الحكمة. وإذا بقيت البنادق مشرعة في الداخل، بين “ثوار” و”ثوار”، فإننا نعيد صناعة الطغيان بأدوات الثورة.
سوريا لا تحتاج إلى زعيم جديد، بل إلى نظام جديد. لا تحتاج إلى فئة تزعم أنها المنتصرة، بل إلى توافق وطني واسع يعيد لحمة المجتمع الذي فتّته الاستبداد وتوزّعه المنفى. ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى قيادة تتواضع أمام تضحيات السوريين، وتضع مصالحهم فوق كل حسابات الخارج والداخل، قيادة تفكر بمنطق التأسيس الحضاري لا بمنطق التمكين الفئوي، وتقيم المشروع الوطني على أرضية صلبة من العدالة والمواطنة، لا على رمال الشعارات الرنانة.
أما أولئك الذين يعلّقون فشلهم على شماعة “المؤامرة”، فإنهم لا يدركون أن كل مشروع تغيير في التاريخ وُوجه بالمؤامرات. الفارق ليس في غياب العدو، بل في امتلاك أدوات الصمود أمامه. لا يُلام العدو على كيده، بل تُسأل الثورة: هل أعدت عدتها؟ هل امتلكت المعرفة والتنظيم والرؤية والإدارة؟
سوريا الجديدة لا تُبنى بالبكاء على الأطلال، ولا بالحنين إلى الماضي، ولا بانتظار دعم الخارج. تُبنى بإرادة وطنية صلبة، تتجاوز الأيديولوجيا إلى التعايش، وتُقدّم الدولة على الجماعة، والمواطنة على الهوية الفرعية، والعدالة على الغنيمة.
لقد آن الأوان أن تنتقل سوريا من مرحلة الأسى إلى مرحلة التأسيس. فدماء الشهداء لا تكفي لبناء وطن إن لم تتحول إلى مشروع سياسي واضح المعالم. والعويل على الأطلال لا يعيد العمران، ما لم يُقرن بفعل ناضج، وتخطيط علمي، وقيادة راشدة تعرف كيف تحوّل الألم إلى أمل.
إن أعظم ما يمكن أن تقدمه الثورة السورية اليوم، بعد سنوات العذاب والمواجهة، ليس إسقاطًا آخر، بل بناء أول: أول دولة حديثة، عادلة، مدنية، غير مركزية في تاريخ سوريا الحديث. فإن فعلت، كتبت التاريخ من جديد. وإن عجزت، فلن تكون إلا حلقة إضافية في سلسلة الانكسارات.
وما أكثر من أحسنوا الهدم… وما أقل من أتقنوا البناء (موقع اخبار سوريا الوطن-1)