عنب بلدي – كريستينا الشماس
"أربع ساعات أقضيها في أتعس مكان لا تسمع به سوى صرخات صامتة للمرضى"، هكذا وصف عبد الرحمن العمري معاناته كمريض سرطان عندما يتردد لمستشفى "البيروني" لتلقي علاجه.
يتحدث عبد الرحمن (45 عامًا)، وهو مريض مصاب بسرطان الدم، أن معاناته مستمرة على مدار 5 سنوات في تأمين ثمن علاجه وأدويته، إذ لا يؤمّن له المستشفى سوى جرعة قد لا تجدي نفعًا في بعض المرات، على حد تعبيره.
"في آخر مرة ذهبت إلى المستشفى، لم تكن هناك أي معدات طبية، لدرجة أن مادة القطن الطبي اشتريتها على نفقتي الشخصية لأخذ الجرعة"، قال عبد الرحمن.
قصة عبد الرحمن نموذج يعكس معاناة مرضى السرطان وذويهم، للحصول على علاج مجاني في مستشفى "البيروني" الجامعي في حرستا بريف دمشق، الذي يعد المركز الرئيس الوحيد المتخصص بمعالجة الأورام السرطانية، ويقدم خدماته التشخيصية والعلاجية مجانًا.
يستقبل المستشفى حوالي 60% من مرضى السرطان في سوريا، وهو ما يفوق قدرته الاستيعابية. ويواجه كحال القطاع الصحي في سوريا تحديات كثيرة، منها نقص في تأمين الجرعات الكيماوية للمرضى، وعدم توفر أنواع معينة لبعض الحالات المستعصية، ونقص في الأدوية والمعدات الطبية، ما يضع المرضى أمام خيارين، إما علاج مكلف يتحمل المريض وعائلته أعباءه، أو التأخير في رحلة العلاج منتظرين دورهم أمام باب المستشفى.
واقع المرضى
تشهد سوريا زيادة في عدد حالات الإصابة بالسرطان خلال السنوات الأخيرة، وفي عام 2020، سجلت 21 ألف إصابة جديدة بالسرطان، و13 ألف حالة وفاة بسبب المرض، بحسب تقرير صادر عن "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، ومن المتوقع أن يرتفع هذان الرقمان بمقدار يناهز الضعف بحلول عام 2030.
سميرة ديب (50 عامًا) تعاني من سرطان الثدي وتقيم في دمشق، تتوجه إلى مستشفى "البيروني" مرة في الأسبوع لتتلقى علاجها، لكن عدم استجابة جسمها للجرعات المقدمة من المستشفى، اضطرها لشراء جرعات على نفقتها الشخصية.
"تصل تكلفة الجرعة الواحدة إلى 500 ألف ليرة، وهو مبلغ لا أستطع تحمل أعبائه ما جعلني أعتمد على المساعدات المالية لأكمل رحلة العلاج، قالت سميرة.
محمد عبد السلام البري (65 عامًا)، وهو مصاب بسرطان العظام ويقيم في محافظة دير الزور، يضطر للسفر مع زوجته كل 15 يومًا إلى دمشق لتلقي العلاج في المستشفى. معاناة محمد لم تقتصر على صعوبة تأمين ثمن العلاج والأدوية، والتنقل المستمر بين المحافظتين، بل تشمل عدم قدرته على استئجار مسكن في دمشق، ما جعله يضطر للنوم في ممرات المستشفى لعدم وجود أسرّة كافية للمرضى، بسحب ما قاله لعنب بلدي.
تكاليف العلاج.. الخصم الثاني
تتراوح تكلفة جرعات علاج الكيماوي في سوريا بين 200 و500 دولار لكل جلسة، وهذا يتوقف على نوع السرطان والعلاج المطلوب. ومع تدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع أسعار الأدوية، يجد المرضى أنفسهم في مأزق مالي حاد، ما يدفع العديد من العائلات إلى البحث عن بدائل غير موثوقة المصدر أو تأخير العلاج حتى تفاقم الحالة.
بعد تشخيص إصابته بسرطان الرئة، قال مازن معمر (35 عامًا) إن الطبيب قال له، "إذا كانت لديك أملاك ابدأ بالبيع"، لإخباره بأن رحلة علاجه ستكون مكلفة، نظرًا إلى عدم توفر نوع الجرعات في مستشفى "البيروني".
وتصل تكلفة الجرعة الواحدة إلى مليون ونصف مليون ليرة، وهو مبلغ لا يتناسب مع مدخول مازن الشهري الذي يصل في أحسن الأحوال إلى مليوني ليرة. "مرض السرطان لا يعتبر خصمي الأوحد، فتكاليف علاجي ستكون خصمي الثاني الأشد فتكًا"، قال مازن.
ولم يستطع حسام بريك إخفاء قلقه على مستقبل الوضع الصحي لابنته المصابة بسرطان الرئة منذ ثماني سنوات، فعدم توفر علاج ابنته في سوريا يجعله يؤمّن الجرعات من مصر، بتكلفة تصل إلى 7 ملايين للجرعة الواحدة. واضطر حسام لبيع منزله في منطقة جرمانا وسيارته وصيغة ذهب زوجته، مقابل استكمال رحلة علاج ابنته، معبرًا بقوله، "أدفع دم قلبي مقابل شفاء ابنتي".
ولا تختلف قصة منيرة السهوي (40 عامًا) عن غيرها، إذ تعاني من سرطان الغدد اللمفاوية، وتعيش في مدينة السويداء وتتلقى علاجها في مستشفى "البيروني" بريف دمشق. تروي منيرة أن عائلتها اضطرت لبيع بعض ممتلكاتهم لتغطية تكاليف علاجها، "لم يكن لدينا خيار سوى بيع السيارة التي كانت وسيلة نقلنا الوحيدة، لكن رغم ذلك، لم يكن كافيًا لتغطية تكاليف العلاج الكيماوي".
أسباب نقص المعدات
مدير مستشفى "البيروني" الجامعي، الدكتور رضوان الأحمد، قال لعنب بلدي، إن نقص المعدات والمستلزمات الطبية يعود لعدة أسباب، أبرزها التحديات اللوجستية والاقتصادية التي تواجه القطاع الصحي بشكل عام. بالإضافة إلى صعوبات في تأمين المواد من الموردين، نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة سابقًا، وأيضًا ارتفاع تكاليف النقل والتخزين.
وأوضح الأحمد أن الضغط الكبير على المستشفى باعتباره مركزًا رئيسًا لعلاج الأورام يزيد من الاستهلاك اليومي للمستلزمات. وأشار إلى أن تأمين الجرعات الكيماوية للمرضى يتم من خلال الاستجرار المركزي عن طريق وزارة الصحة حصرًا، والتي لم يتم حتى الآن استجرارها للأسباب المذكورة سابقًا.
أوضح الدكتور رضوان الأحمد، أن الجرعات الكيماوية يتم توزيعها على المرضى وفق خطط علاجية معتمدة داخل المستشفى بناء على معايير طبية محددة. وفي حال عدم توفر الجرعة المطلوبة أو عدم وجود بديلها في المستشفى، يطلب من بعض المرضى تأمين العلاج من الخارج، وهذا ما يشكل عبئًا كبيرًا عليهم، بحسب الأحمد.
وأكد مدير المستشفى تضافر جهود إدارة المستشفى مع فريق الاستجابة السريعة لتأمين الجرعات، لكن أحيانًا تكون الكميات غير كافية لتغطية جميع المرضى، أو لا تكون الجرعات مطابقة لحالة معينة، ما يؤدي إلى ضعف الاستجابة عند بعض المرضى.
كما أن بعض الحالات تحتاج إلى أدوية نوعية لا تكون متوفرة دائمًا في المستشفى، منوهًا إلى أن جميع الجرعات تعطى ضمن بروتوكولات عالمية، لكن بعض الأمراض بطبيعتها مستعصية العلاج.
وبيّن الأحمد وجود عدة عوائق تواجه إدارة المستشفى، منها ضعف التمويل، وعدم الاستجرار المركزي بالوقت المناسب، والنقص المستمر في المستلزمات الطبية، إضافة إلى تزايد عدد المرضى بشكل يفوق القدرة الاستيعابية للمستشفى.
ولحل هذه العوائق، بحسب الأحمد، تعمل إدارة المستشفى بالتعاون مع وزارتي الصحة والتعليم العالي، على تطوير آليات التوريد وتحسين التخزين والتوزيع، إلى جانب طلب دعم إضافي من المنظمات الدولية.