أدت الأحداث المفجعة التي شهدتها السويداء مؤخرًا، بحسب لمى قنوت، إلى تصدعات مجتمعية واضحة، وزادت من الاحتقان الطائفي، لتضاف إلى آثار مجازر الساحل في آذار الماضي، وأحداث جرمانا وأشرفية صحنايا بعد فرار الأسد. هذه التطورات تعكس ما هندسه نظام الأسدين من اصطفافات وتخندق ومظالم.
وقد كشف خيار السلطة في إخضاع محافظة السويداء بالقوة العسكرية عن ضعف سياسي في قراءة المعطيات الجيوسياسية والمواقف الدولية والإقليمية، مما يعد مغامرة بالسلم الأهلي، وإيقاظًا لعصبيات قبائلية وعشائرية، الأمر الذي قد يفاقم الصراعات الأهلية، ويعقد الوضع السياسي والأمني، ويطيل أمد العقوبات، ويكرسها كأداة إخضاع لإملاءات الخارج.
وترى مصادر أن السلطة الانتقالية راهنت على أن الدعم الدولي والإقليمي والمفاوضات مع إسرائيل ستمنحها غطاءً لإحكام قبضتها على السلطة، بما في ذلك تسوية ملفات عالقة مثل ملف السويداء. ويدعم هذا التوجه تعنتها في انعدام التشاركية وتفردها في الحكم والقرار، وتركيز جميع الصلاحيات بيد الرئيس الانتقالي، بعيدًا عن السعي لبناء عقد اجتماعي وإجماع وطني على إدارة المرحلة الانتقالية من خلال مؤتمر وطني جامع.
شهدت العلاقة بين السلطة الانتقالية والشيخ حكمت الهجري توترات منذ سيطرة السلطة على مقاليد الحكم، إذ تجاهلت الأخيرة رغبة أوساط شعبية وسياسية ودينية بالمحافظة في ترشيح محسنة المحيثاوي كمحافظة، وعيّنت من خارجها مصطفى البكور الذي استقال في أيار الماضي إثر حادثة اعتداء على مبنى المحافظة واقتحام مكتبه وإشهار السلاح في وجهه، ثم عاد واستأنف عمله بعد شهر.
وبينما كان الإطار الإداري والأمني والخدمي بين المحافظة والمركز يسير وفق خطة تفاهمات تم التوافق عليها بين المحافظ والهجري في 12 من آذار الماضي، كان الخلاف السياسي يتصاعد بين الهجري والسلطة، والذي بدأ برفضه الإعلان الدستوري، إثر بيانه الصادر في 18 من آذار الماضي، واصفًا مضمونه بإعلان دكتاتوري، صادر عن لجنة من نفس اللون الواحد كسابقاتها، وسلّم “البلاد كلها لشخص واحد بصلاحيات مطلقة تؤسّس لسلطة استبدادية جديدة”، وطالب بإعادة صياغة الإعلان الدستوري، عبر لجان تشمل المحافظات، تؤسس لنظام ديمقراطي تشاركي “يأخذ بالخصوصية التاريخية والثقافية لكامل البلاد واحترام حقوق الإنسان، وضمان المشاركة الفعالة للمواطنين في صنع القرار بدولة ديمقراطية موحدة، تقوم على مبدأ فصل السلطات واستقلاليتها، وصلاحيات محلية إدارية أوسع للمحافظات السورية”.
كما انتقد بيان الهجري مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في أقل من خمس ساعات، واصفًا توصياته بأنها “متداخلة جاهزة مخيّبة للآمال”، ومع ذلك، أكد على استعداده للتعاون، لكنه، وقبل خمسة أيام من تاريخ البيان المذكور، وخلال لقائه مع عدد من الفعاليات المجتمعية، قال، “لا وفاق أو توافق مع حكومة متطرفة بكل معنى الكلمة ومطلوبة للعدالة الدولية”، ووصف المرحلة الحالية بأنها “مرحلة كن أو لا تكن”، وبأنه يعمل لمصلحة الطائفة، ووصف المتعاونين مع السلطة، أو من “انتقلوا إلى جانب الإدارة”، بأنهم، “يبيعون أهلهم وكرامة أهلهم وتاريخ أهلهم ودم أهلهم”.
وكان موقف الهجري آنذاك مختلفًا عن موقفي كل من الشيخ يوسف الجربوع والشيخ حمود الحناوي، وشمل الانقسام أيضًا الفصائل المسلحة في السويداء، فـالتحالف الذي أنشأته “حركة رجال الكرامة” مع “شيوخ الكرامة” و”أحرار الجبل” كان مؤيدًا للاتفاق مع الحكومة الانتقالية، والذي نص على تفعيل الضابطة العدلية والمؤسسات الشرطية مع أبناء المحافظة، بينما “المجلس العسكري” الذي يقوده طارق الشوفي، والذي تشكل بعد سقوط النظام البائد، تبنى موقفًا عدائيًا من الحكومة الانتقالية ورفض التعامل معها، ولكن خارطة التحالفات تغيرت بعد الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة الانتقالية في السويداء مؤخرًا، وتوحدت مطالب الفصائل المحلية الدرزية بضرورة انسحاب قواتها من المحافظة، والتصدي لقوات العشائر.
بعد الاشتباكات المسلحة في جرمانا وأشرفية صحنايا التي وقعت في نهاية نيسان وبداية أيار الماضيين، نصبت قوات عشائرية (عشائر المطلة) التابعة للأمن العام في وزارة الداخلية حاجزًا أمنيًا (على طريق دمشق- السويداء، الذي سبق وأن ارتكبت عناصره انتهاكات ضد مسافرين دروز، وكان قطع هذا الطريق الحيوي يسبب أزمات في توريد المحروقات والغذاء وغيرها إلى السويداء، ناهيك بتعطيل مصالح أبنائها وبناتها. وعلى هذا الحاجز، تعرض تاجر درزي لإهانات واعتقال وسرقة في 12 من تموز، ما دفع بعصابات محلية درزية إلى خطف مجموعة من بدو منطقة القوس ردًا على ما تعرض له التاجر، وقامت بدورها مجموعة من الأخيرة بخطف مجموعة من الدروز، وخلال تدخل قوات وزارتي الدفاع والداخلية لفض الاشتباك بين الدروز والبدو، شنت معركة على محورين، من درعا ومن ريف دمشق، استخدمت فيها الدبابات والمدفعية والمسيرات وقذائف الهاون، من أجل السيطرة على المحافظة، لكنها اضطرت لسحب قواتها بعد العدوان الإسرائيلي على آليات ومواقع عسكرية في أطراف السويداء وريف درعا ودمشق وبضمنها هيئة الأركان ومحيط القصر الجمهوري في 16 من تموز الماضي.
أيًا كانت الحقيقة في السرديات المتداولة، والمتعلقة بخلفيات الخيار العسكري الذي اختارته السلطة الانتقالية في السيطرة على محافظة السويداء بعد اجتماع مسؤول سوري وآخر إسرائيلي في العاصمة الأذرية باكو، وذلك على هامش زيارة أحمد الشرع لأذربيجان، و”سوء الفهم” الذي تحدث عنه وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، بين الطرفين، وأسبابه، فإن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها القوات التابعة للسلطة بالمقام الأول، والجماعات المسلحة من الدروز والبدو، خلّفت أزمة إنسانية خطيرة، وأدت إلى أعمال نهب وحرق منازل وإعدامات ميدانية واعتداءات طائفية، وارتكبت السلطة الانتقالية إثمًا كبيرًا في عدم الوقف الفوري للحشود العشائرية التي اتجهت إلى محافظة السويداء، وارتكبت جرائم وانتهاكات جسيمة بحق المدنيين من الدروز، وأدت فيما بعد إلى تهجير عوائل من البدو خارج السويداء.
استحضر استخدام السلطة للأسلحة الثقيلة والقوة المفرطة ضد المدن والمدنيين صورًا من الذاكرة الجمعية السورية لما عانته مدن سورية من عقاب جماعي مارسه النظام البائد عليها، وفي سياق استمرار عنف السلطة أو العنف والتجييش الطائفي والعنصري والمناطقي الذي ترعاه أو تغض النظر عنه، وتعنتها في طرائقها وابتعادها عن الحوار الداخلي، كيف لنا أن نخرج من دوامة العنف والعنف المضاد ونتعافى كمجتمعات.