الإثنين, 23 يونيو 2025 12:00 AM

سوريا: من عقلية الثورة إلى بناء الدولة.. تحديات وآفاق المرحلة الانتقالية

سوريا: من عقلية الثورة إلى بناء الدولة.. تحديات وآفاق المرحلة الانتقالية

جنى العيسى | حسن إبراهيم | عمر علاء الدين - منذ الأيام الأولى لسقوط النظام السابق في 8 كانون الأول 2024، تصدّرت مسألة التحول من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة تصريحات الإدارة السورية الجديدة. إلا أن هذه الرغبة لم تُدعم بقرارات فعلية من الحكومة، في حين بدا الشارع الثوري غير جاهز تمامًا لهذه الخطوة، مع تسجيل حالات اعتداء ومطالبات باسم الثورة لا الدولة.

يرى باحثون ومفكرون وناشطون أن الانتقال إلى عقلية الدولة يتطلب منظومة حوكمة تخلق الثقة بين السلطة والمجتمع، وتعيد تشكيل العلاقة بينهما، وترسخ مبادئ العدالة والمساواة، وتحاسب مرتكبي الانتهاكات، وتعيد الحقوق لأصحابها. في المقابل، تبدو ذاكرة الشارع الثائر أثقل من أن تُطوى دون ترسيخ مطالبه التي نادى بها لسنوات.

تتناول عنب بلدي في هذا الملف أسباب تمسك البعض بعقلية الثورة، ودور الحكومة في هذا السياق، والعقبات التي تواجه هذا التحول، ورأي الخبراء في هذا الملف.

مطالب تحت عباءة الثورة

بعد أيام من سقوط النظام، أشار الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى أن سياسة الإدارة السورية الجديدة تتجه نحو التحول من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة. وبحسب دراسة لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، يحتاج الانتقال من الحالة الثورية إلى فكر الدولة خطوات وآليات، مع وجود فارق بين الثائر الذي تحكمه أيديولوجيا الثورة، ورجل الدولة الذي يحكمه الواقع ويتحلى بقدرة قراءته والتحرك ببراغماتية.

اعتداءات وحوادث

في نهاية أيار الماضي، تصدرت حادثة الاعتداء على القاضي أحمد حسكل الواجهة الإعلامية في حلب، مما أدى إلى انقسام في الشارع الحلبي ووقوع احتجاجات مضادة. تمثلت هذه الاحتجاجات بمظاهرة في قصر العدل رفضًا للاعتداء على القاضي، وأخرى أمام القصر طالبت بالإفراج عن رئيس قسم شرطة الصالحين في حلب، عبيدة طحان، الذي اعتدى على القاضي.

خلقت الروايات المتضاربة للحادثة انقسامًا، حيث دافعت بعض الروايات عن طحان واتهمت القاضي بأنه من “فلول النظام السابق” ومن قضاة محكمة “الإرهاب”، وأنه كان يصدر أحكامًا جائرة ضد المشاركين بالثورة. في المقابل، أصدرت وزارة العدل بيانًا نفت فيه عمل القاضي في محكمة “الإرهاب”، وانتهت الحادثة بالإعلان عن صلح بينهما.

وفي 26 أيار الماضي، جمّدت نقابة المحامين في محافظة حلب عضوية 64 محاميًا مؤقتًا، بسبب “توفر أدلة تفيد بمخالفتهم واجبات المهنة ومبادئها”، وأحالتهم إلى التحقيق أمام اللجنة القانونية المختصة والمحكمة المسلكية، تمهيدًا لشطبهم نهائيًا في حال ثبوت الأدلة.

الرئيس السوري أحمد الشرع يستقبل وزير الداخلية أنس خطاب وعددًًا من مسؤولي الوزارة
الرئيس السوري أحمد الشرع يستقبل وزير الداخلية أنس خطاب وعددًًا من مسؤولي الوزارة – 9 حزيران 2025 (رئاسة الجمهورية)

“تنقية القصر العدلي” في حلب

في 27 أيار، نظم عدد من محامي حلب وقفة احتجاجية أمام القصر العدلي، بدعوة من نقابة المحامين وناشطي المدينة الحقوقيين، للمطالبة بإصلاح المرفق القضائي وإقالة القضاة المتهمين بالفساد.

قال المحامي أحمد مزنوق لعنب بلدي، إن الوقفة الاحتجاجية كانت مقررة مسبقًا، وجاءت امتدادًا لتحركات سابقة بدأت قبل نحو 20 يومًا، وتركزت مطالبها حول “تنقية القصر العدلي من بعض القضاة الذين عملوا في ظل النظام السابق، وكانوا مرتبطين بالأجهزة الأمنية، وشاركوا في إصدار أحكام بحق المعارضين ومصادرة ممتلكاتهم”.

أوضح مزنوق أن هذه المطالب لا تشمل جميع القضاة الذين كانوا يعملون في حلب، مشددًا على ضرورة التمييز، ومؤكدًا أنه يدعم “التعايش السلمي وفتح صفحة جديدة مع كل من لم تتلوث يداه بالدماء”.

من جانبه، قال أمين سر نقابة المحامين الأحرار سابقًا في حلب، المحامي عبد العزيز درويش، إن قرار التنقلات القضائية وإعادة هيكلة الكادر القضائي في عدلية حلب “لا يرقى إلى مستوى طموحات المحامين الأحرار”. وأشار إلى أن العدلية لا تزال بحاجة إلى “تنظيف حقيقي لمفاصلها من القضاة الذين دعموا النظام السابق، وأسهموا في زج المواطنين بالسجون”.

وأضاف درويش أن المطلوب ليس مجرد نقل أو تجميد وظائف، بل “إنهاء خدمات كل من تواطأ مع منظومة الظلم”، عبر الإحالة إلى التقاعد أو الفصل من السلك القضائي، لأن “من أعان الظالم لا يمكن أن يكون عادلًا”.

وشدد درويش على موقف المحامين الداعم لسيادة القانون، ورفضهم لأي تجاوز قانوني، معتبرًا أن “المحاسبة يجب أن تتم ضمن الأطر القانونية، وليس استنادًا إلى ردود الفعل أو الأهواء الشخصية”، لافتًا إلى أن القانون يتضمن نصوصًا واضحة تجرم استيفاء الحق بالذات.

وقال المحامي عمر يغن لعنب بلدي، إن صدور قرار من عدلية حلب ودائرة العدل يتضمن التشكيلات القضائية الجديدة “موفق”، إذ تم خلاله تنحية عدد من القضاة المتهمين بالفساد، وإدخال قضاة وصفهم بـ”الأحرار”، ممن عملوا سابقًا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام البائد.

واعتبر يغن أن “هذه خطوة مبشرة، وإن لم تكن على مستوى الطموحات الكاملة”، مؤكدًا أن “تحقيق العدالة الانتقالية يمر أولًا بإصلاح المؤسسات، وعلى رأسها مؤسسة القضاء”، وشدد على ضرورة عدم الاكتفاء بإعادة تشكيل الجهاز القضائي، بل التوسع في إصلاح باقي المرافق المرتبطة به.

إدلب.. مطالب بالإفراج عن معتقلين “متورطين بالدم”

في 26 أيار، تظاهر عشرات الأشخاص في مدينة إدلب، للمطالبة بالإفراج عن أفراد اعتقلهم “الأمن العام” قبل شهر “شاركوا بقتل أشخاص موالين لنظام الأسد السابق”، بعد أن عادوا إلى المدينة عقب تحرير سوريا.

وبحسب مراسلة عنب بلدي في إدلب، فإن المتظاهرين اجتمعوا للمطالبة بالإفراج عن ذويهم وأقربائهم المعتقلين والذين سُجنوا بسبب ملاحقتهم لمن سموهم “الشبيحة”، وقتلهم.

وردد المتظاهرون عبارات ثورية ذكروا فيها دور وأهمية محافظة إدلب بتحرير سوريا، وبالتضحيات التي قدمها أبناؤها طيلة السنوات الماضية للضغط على الحكومة الحالية للإفراج عن أبنائهم الذين لهم خلفية ثورية، وشاركوا في المعارك ضد نظام الحكم السابق.

قال أحد المتظاهرين لعنب بلدي، “إن من المجحف بحق هؤلاء المعتقلين زجهم بالسجون من أجل أشخاص عملوا إلى جانب النظام السابق، وكانت لهم يد باعتقال مئات الأشخاص، وعاثوا فسادًا في البلاد، وأذاقوا أهل المحافظة الظلم من خلال كتابتهم تقارير كاذبة ليلمعوا صورتهم أمام النظام، فكان قتلهم خيارهم الوحيد”.

“صوت مطلوب لتقويم السلوك”

في حزيران الحالي، أثارت زيارة عدد من الفنانين والممثلين إلى مخيمات النازحين في إدلب، موجة غضب وانتقادات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، على اعتبار أنهم “لم يكونوا إلى جانب الثورة، واصطفوا إلى جانب النظام، وسكتوا عن جرائمه”.

أبرز حالات الغضب في الشارع السوري، كانت بعد حديث عضو اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي في سوريا، حسن صوفان، بأن المتهم بتنفيذ جرائم حرب بحق المدنيين، “فادي صقر”، مُنح “الأمان” من قبل القيادة السورية بدلًا من التوقيف، والإفراج عن عشرات الضباط في قوات النظام السابق، قال عنهم صوفان “لم تتلطخ أيديهم بالدماء”.

قال إعلامي عسكري لدى “هيئة تحرير الشام” (قبل حلها في كانون الثاني الماضي) لعنب بلدي، إن “الأحرار لن يسكتوا عن أي خطأ أو ظلم في سوريا بعد اليوم”، معتبرًا أن أي انتقاد بنّاء أو صوت ثوري في هذه المرحلة يقوّم سلوك الحكومة، وليس تثبيطًا من عزيمتها أو تقليلًا من التحديات التي تواجهها.

وأضاف أن الثورة نواة الدولة ولا تتعارض مع عقليتها، معتبرًا أن الانتقاد أو الاحتجاج أو تعدد المطالب باختلاف القضايا لن ينتهي في بلد أنهكته سنوات الحرب، ولا يعد مؤشرًا على غياب عقلية الدولة، بل العكس، لأن الاستجابة للمطالب المحقة والاستماع لهذه الأصوات، يعكس التحول إلى فكر الدولة لا فكر “عصابة” كما كانت سوريا في عهد الأسد.

واعتبر الإعلامي أن الشارع الذي يتكلم بلغة ثورية لا يعني أنه معارض لفكر الدولة، لكن الجراح عميقة لدى السوريين، وكل فرد يبحث عن حل لمشكلاته، ويطالب بتحصيل حقوقه، مع اختلاف وجهات النظر بين ما هو حق يكفله القانون وبين ما هو نزعة ثورية ربما تستند إلى “مغالطات وفهم خاطئ لمعنى الثورة ومطالبها”.

تجربة جنوب إفريقيا

تعد جنوب إفريقيا من الدول التي شهدت تحولًا سياسيًا من “نضال وثورة سياسية واجتماعية” ضد سياسة الفصل والتمييز العنصري، إلى عقلية الدولة وإجراء أول انتخابات “حرة شاملة غير عنصرية” عام 1994، وفوز نيلسون مانديلا بالرئاسة، حيث كان أول رئيس من ذوي البشرة السمراء لجنوب إفريقيا.

النضال في جنوب إفريقيا أنهى نظام “الأبارتهايد” (وهو نظام فصل وتمييز عنصري مورس في جنوب إفريقيا من عام 1948 إلى عام 1994)، وكرّس الفصل العنصري قانونيًا واجتماعيًا. وشمل “النضال أو الثورة أو التحول الثوري” احتجاجات جماهيرية واسعة، وحملات عصيان مدني وإضرابات منظمة، ونشاطًا سياسيًا وتعبئة جماهيرية، وكفاحًا مسلحًا محدودًا في بعض المراحل.

تولى نيلسون مانديلا رئاسة البلاد من 1994 إلى 1999 (توفي عام 2013)، وجرى تأسيس مؤسسات جديدة، أهمها لجنة الحقيقة والمصالحة، التي هدفت إلى كشف انتهاكات الماضي وتثبيت الانتقال السلمي، وقاد مانديلا البلاد خلال مرحلة الانتقال من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية.

ورغم بناء نظام ديمقراطي واعتراف دستوري بالحقوق، بقي التفاوت الاقتصادي والإرث الاجتماعي للتمييز العنصري من أبرز التحديات التي واجهت الدولة الجديدة، ولا تزال بعض التحديات موجودة منها الفقر والبطالة المرتفعة، واستمرار التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.

اجتماع الرئيس السوري أحمد الشرع بأعضاء اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب
اجتماع الرئيس السوري أحمد الشرع بأعضاء اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب – 14 حزيران 2025 (رئاسة الجمهورية)

الثورة حاضرة.. مسار التحول يتأخر

لا يعني الانتقال إلى وظائف وممارسات الدولة أبدًا إلغاء فكرة الثورة أو تهميشها أو التنازل عن أهدافها، فالثورة بمعناها الوظيفي حالة مستمرة ومتجددة، وإنما المقصود به تشذيب الفكرة الثورية وتدعيمها عبر دمجها بمؤسسات الدولة، وتحويل الثورة إلى فكرة وبوصلة، أي الإبقاء على الحالة الثورية كموجه للعمل وتحويل الآليات إلى صيغة مؤسساتية تؤدي وظائف الدولة، بحسب ما أكدته دراسة لمركز “عمران“.

لذلك لا بد كأساس في هذا الانتقال من مراجعات حقيقية لقيادات الثورة السورية وممثليها وتحديدًا من الطيف السياسي، والتقييم بشكل حقيقي إن كانوا يستطيعون تحمل هذه المسؤولية أو إن كانوا أصلًا مهيئين لقيادة مرحلة الدولة، مقابل البحث بشكل جدي عن قيادات قادرة على استيعاب المرحلة، مع التركيز على الفارق بين الثائر ورجل الدولة، وإدراك حقيقة أن من فشل في قيادة العمل الثوري أساسًا، وهم كثر في صفوف الثورة، لن ينجح في قيادة مرحلة الانتقال إلى ممارسات الدولة سواء على المستوى الفكري أو الوظيفي، وفق الدراسة.

الدولة تحتاج إلى مسار العدالة الانتقالية

قال الدكتور زيدون الزعبي، المتخصص في إدارة الجودة والحوكمة، لعنب بلدي، إن أسباب تمسك بعض الأشخاص والكيانات بعقلية الثورة تعود إلى طبيعة اللحظة، حيث لا تزال الدماء تغلي، ولا يزال الغضب حاضرًا، لأن عمر مسألة التحرير ستة أشهر فقط، وبالتالي عقلية الثورة لا تزال موجودة.

لكن هناك أيضًا أسبابًا ترتبط بمعنى الخروج من الثورة إلى الدولة، وما الذي يجب أن يحدث لضمان هذا الخروج، ومن المهم التعرف إلى استراتيجية الحكومة في هذا التحول، ما يفرض الحاجة، وفق ما يرى الزعبي، إلى توعية عامة أن العدالة الانتقالية لا تعني معاقبة كل مرتكب للجرائم، وتعني أن هناك أشخاصًا سيعفى عنهم لتحقيق غايات مرتبطة بالسلام، بمعنى أولوية السلام على العدالة الشاملة، لذا هي عدالة انتقالية وليست مطلقة.

ويؤكد الزعبي أن تأخر إطلاق مسار العدالة الانتقالية يسهم في تكريس عقلية الثورة، بسبب الحاجة إلى وجود مسار توعوي للناس لشرح ما يجب أن يتوقعوه من هذه العملية.

طائرات ترمي وردًًا ومنشورات على متظاهرين في مدينة إدلب
طائرات ترمي وردًًا ومنشورات على متظاهرين في مدينة إدلب بالذكرى العاشرة لتحرير مدينتهم من نظام الأسد – 28 آذار 2025 )عنب بلدي/ محمد مصطو(
وقفة تطالب بالحفاظ على السلم الأهلي أمام محطة الحجاز في دمشق
وقفة تطالب بالحفاظ على السلم الأهلي أمام محطة الحجاز في دمشق – 31 كانون الثاني 2025 (عنب بلدي/أنس الخولي)

ثنائية الثورة والدولة لا تتعارض

قال مدير الأبحاث والسياسات في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، لعنب بلدي، إن سقوط الأسد وتحرير البلاد يعد خطوة رئيسة ومفصلية في حركية الثورة التي عملت عبر العقد الماضي بأدوات عدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية، وحتى أمنية وعسكرية، على تحقيق مطالبها.

وأضاف طلاع أن هذه الخطوة جاءت ضمن سلسلة من خارطة طريق تضمن انتقال سوريا من الاستبداد وتعميم سياسات الحكم الواحد وكم الأفواه وعدم المشاركة المجتمعية، إلى دولة يسودها العدالة وقوة القانون، وبالتالي هنا مرحلة البناء هي مرحلة مستمرة ضمن سيرورة ثورية.

هناك مقاربتان بالعموم في هذا الملف، الأولى تقول إن فعل الثورة بهذه اللحظة يجب أن يدخل بمسار جديد هو البناء، وهو مسار متسق مع الثورة. فيما تفيد المقاربة الثانية التي بدأت تطرح مع وصول الإدارة الجديدة إلى السلطة بأن الثورة انتهت، واليوم نتحدث عن مرحلة جديدة عنوانها الدولة واسترداد الدولة وقرار الدولة.

بطبيعة الحال، هناك انقسام شعبي في إطار هذه المقاربات، وفق ما أكده الباحث، فقسم يرى أن الثورة مستمرة وينظر إليها بشكل موضوعي، وآخر يرى أن الثورة يجب أن تنتهي وتبدأ مرحلة جديدة.

يعتقد الباحث السياسي معن طلاع، أن الفصل هنا هو فصل سياسي يجب أن يكون بين ثنائية الثورة والدولة، مشيرًا إلى أن جزءًا من التمسك بالثورة هو فعل مستمر مرتبط بإنهاء كل الأسباب التي دفعت المجتمع السوري إلى الثورة، ومعالجة ما ظهر من انتهاكات وجرائم قامت بها شريحة مهمة من موالي النظام السابق ولا سيما “الشبيحة” و”الفلول”، وبالتالي هنا يرتبط مفهوم استمرار الثورة بتحقيق العدالة التي يمكن أن تسهم في تعزيز انخراط المجتمع ككل في حركة البناء.

وأكد طلاع أن تأخر إطلاق الاستحقاقات الوطنية والبدء بتفعيلها قد يسهم في تعزيز سردية الاستمرار بالثورة، إذ يرتبط التمسك بهذه العقلية بالحقوق، لا سيما حقوق الضحايا وتخليد الذكرى وجبر الضرر وكل ما هو مرتبط بملف المحاسبة.

إن التأخر في هذه الاستحقاقات الوطنية ليس منوطًا باستبعاد هذه الفئة، بقدر ما يرتبط بمنظومة معقدة من العوامل السياسية والأمنية التي تشهدها سوريا، لذا لا بد من تشكيل قاعدة أساسية لعقد اجتماعي يشمل كل السوريين، ومعالجة هادئة للتحديات في هذا الإطار، لا سيما فيما يتعلق بثلاثية السلم والمصالحة والعدالة.

معن طلاع

باحث سياسي

ويعتقد الباحث معن طلاع أن تحرير المصطلحات يمكن أن يوضح التمايز في هذه القضية، إذ يمكن اعتبار الثورة إحدى أدوات استرداد الدولة وبنائها، وبالتالي هنا يمكن القول إن الثورة مستمرة لكن مرتبطة بأدوات الدولة وضرورة قوتها ووجودها، الأمر الذي يضمن الابتعاد عن الحركات الانتقامية والسياسات الفردانية.

من جانب آخر، يجب على الدولة اليوم تذليل هذه الهواجس المجتمعية عبر قرار إشراك هذه الفئة في التفكير بتنفيذ هذه الأجندة والاستحقاقات الوطنية، سواء المشاورات أو حتى الاطلاع على الرؤى والمقررات المجتمعية في هذا السياق.

يمكن القول إن ثنائية الثورة والدولة لا يمكن أن تتعارض حتى في هذه المرحلة، وبالتالي يمكن النظر إلى الثورة كإحدى أدوات الدولة، ضمن خطوات أكثر نجاعة للبناء، لا سيما إذ ارتبطت مع مفهوم تحقيق العدالة وسيادة القانون والابتعاد عن السياسات الفردية.

وقفة تطالب بالحفاظ على السلم الأهلي أمام محطة الحجاز في دمشق
وقفة تطالب بالحفاظ على السلم الأهلي أمام محطة الحجاز في دمشق – 31 كانون الثاني 2025 (عنب بلدي)

الدولة ضامن رئيس لضبط الانتقال

يتطلب نقل الدفة الثورية باتجاه العمل المؤسساتي وجود رجالات دولة حقيقيين، إلا أنه وفي الوقت نفسه يحتاج إلى ما لا يقل أهمية عن ذلك، والذي قد يعتبر الضمان الأساسي لهذا الانتقال، وهو الوعي والمسؤولية من الجانب الثوري (العسكري) وإدراكه لحساسية المرحلة، وعدم الاستئثار بأي آلية من شأنها أن تساعد الكادر الجديد، وذلك لن يتم إلا بإحصاء مجموع الأخطاء التي ارتكبت في الحالة الثورية، والإيمان بالقدرة على تجاوزها عبر فكر ومؤسسات الدولة، أي أنها أشبه بمرحلة لإعادة توزيع السلطات، تقوم خلالها الجهات الثورية وتحديدًا العسكرية بتسليم مجموع المسؤوليات المتعددة التي استأثرت بها خلال سنوات الثورة، سواء لعدم ثقتها بالجانب الإداري السياسي أو لطموحات في السيطرة أو نتيجة غياب البديل المؤسساتي، وإيكال تلك المهام والمسؤوليات إلى كوادر اختصاصية والعودة إلى مربع مهامها الأساسية وفصل السلطات مع توحيد الهدف، بحسب ما أشارت إليه دراسة مركز “عمران“.

بناء الدولة الجديدة يشكل بحد ذاته ثورة، بل هو جوهرها. فالثورة لا تنتهي بإسقاط نظام، فهذه هي الخطوة الأولى الضرورية والحاسمة، لكنها ليست سوى المدخل لإعادة بناء الدولة وأجهزتها على أسس جديدة، وإرساء أركان سلطة مختلفة أيضًا في علاقتها مع أهل الثورة وجمهورها وفي طرق ممارستها ووسائل عملها لتحقيق غاياتها التي لا ينبغي أن تخالف إرادة من قام بها وغاياتهم.

برهان غليون باحث ومفكر سوري

يرى الباحث في المركز “العربي للأبحاث ودراسة السياسات” حازم نهار، أن الشرط الرئيس أمام التحول إلى عقلية الدولة هو قناعة السلطة فعليًا بأهمية هذا التحول وضرورته لبناء سوريا، على الرغم من أن الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أكد على ذلك.

وبحسب ما قاله نهار لعنب بلدي، فإن ما جرى فعليًا هو “الاهتمام بترسيخ أركان السلطة الراهنة بدلًا من السير خطوات نحو الأمام في طريق بناء الدولة”.

وعندما تخطو السلطة الراهنة خطوات حقيقية باتجاه بناء الدولة، بحسب اعتقاد الباحث السوري، ستبدأ الهوية الوطنية السورية بالتبلور لدى مختلف القطاعات المجتمعية السورية.

وهناك عدد من الخطوات التي وصفها نهار بـ”المهمة والواضحة”، بإمكان السلطة الراهنة اعتمادها لضمان التحول نحو بناء الدولة، حيث يمكن القيام بها بصورة متزامنة، تتمثل بما يلي:

  • إعادة النظر في الإعلان الدستوري ليكون إعلانًا دستوريًا يقوم على المواطنة المتساوية بصرف النظر عن أي انتماءات أخرى، وعلى أساس نظام ديمقراطي لامركزي واضح المعالم، وعلى فصل السلطات.
  • السير في طريق بناء جيش وطني سوري يعتمد عقيدة وطنية، ويكون مفتوحًا لجميع السوريين للانضمام إليه، فضلًا عن إشراك الضباط المنشقين في إعادة بنائه.
  • السماح ببناء المجتمع السياسي السوري من خلال إصدار قانون أحزاب عصري.
  • إعادة بناء هيئة العدالة الانتقالية بالاعتماد على الشخصيات والهيئات ذات الخبرة في هذا المجال من دون تدخل السلطة المباشر في عملها.

اعتبر حازم نهار أن “التقصير” في كل ما من شأنه الدفع باتجاه بناء الدولة سيؤدي إلى “ضعف تدريجي” في الثقة بالسلطة الراهنة، وسيؤدي إلى بناء “نظام سلطوي” تنفضّ عنه قطاعات مجتمعية متنوعة من السوريين تدريجيًا، وقد يؤدي ذلك إلى شيء من الفوضى نتيجة الذهاب باتجاهات فردية تقوم على الانتقام بدلًا من العدالة، بحكم “عدم الثقة بوجود دولة قادرة على تطبيق عدالة انتقالية حقيقية”.

الرئيس السوري أحمد الشرع يلتقي وكيل الأمين العام لإدارة عمليات السلام في الأمم المتحدة جان بيير لاكروا في دمشق
الرئيس السوري أحمد الشرع يلتقي وكيل الأمين العام لإدارة عمليات السلام في الأمم المتحدة جان بيير لاكروا في دمشق – 21 حزيران 2025 (رئاسة الجمهورية)

تحديد الأولويات ومعارضة سلمية

من جهته، يرى المفكر السوري والباحث في مركز “حرمون للدراسات” عبد الله تركماني، أن ما طرحته قيادة المرحلة الانتقالية، حول ضرورة الانتقال من الثورة إلى الدولة، يشكل مدخلًا مهمًا لنجاح مرحلة الانتقال من الدولة “التسلطية” إلى الدولة “المنشودة”، التي تلقى قبولًا من أطياف الشعب السوري كافة.

وفي هذا السياق، تواجهنا عدة أسئلة وتحديات: هل ستكون الجمهورية السورية الثالثة دينية أم مدنية؟ برلمانية أم رئاسية أم مختلطة؟ ما مدى ضمانها للحريات الفردية والعامة بما فيها حرية المعتقد؟ وكيف يتم تأمين تداول السلطة والفصل بين السلطات الثلاث، قال تركماني في حديثه إلى عنب بلدي.

ولا شك، بحسب الباحث، أن النجاح في الانتقال إلى دولة “الحق والقانون” مرهون بـ”كيفية تعاطينا مع التحديات السابقة، وما يرتبط بها من مؤسسات فاعلة ومجدية”، و”مدى قدرتنا على توفير أوسع إجماع سياسي واجتماعي من المكوّنات السياسية والفكرية والاجتماعية كافة”.

ويعتمد هذا الإجماع، بحسب تركماني، على ثقة المواطنين السوريين وتعاونهم، من خلال تأمين حرياتهم وعدم فرض توجهات سياسية وثقافية معينة عليهم.

ويعتقد الباحث أن السوريين، الذين رحّبوا بوعود رئيس المرحلة الانتقالية، بعد سنوات من غياب الأمن والاستقرار، انتظروا مدى “تطابق الممارسة مع قيم بناء دولة الحق والقانون”، انطلاقًا من قناعتهم بأن سلطة “الدولة المعاصرة” ليست مهمتها “ممارسة السيادة” على مجتمعها فقط، وإنما “توظيف موارد الدولة لتحقيق تنمية شاملة تلبي حاجات المواطنين إلى العمل والسكن والغذاء والصحة والتعليم”.

وقد أدرك السوريون، وفق تركماني، أن الدول تتفاوت في درجة قيمتها وتطور نظمها بتفاوت مستوى “الحوكمة الرشيدة لمؤسساتها”، وفي تمتع جميع المواطنين بما سماها “الحريات غير المنقوصة” وهي: حرية الرأي والتعبير، حرية التجارة والتنقل، حرية تشكيل أحزاب وروابط مدنية وسياسية.

ويرى الباحث أن ممارسة السيادة الوطنية، من قبل سلطة الدولة الحاكمة، تستدعي وجوب “وجود معارضة سلمية منافسة تضبط الحكم”، من خلال تطلعها للحكم مستقبلًا، واستعدادها للمنافسة في الانتخابات المقبلة الدورية.

وفي سياق تحقيق ذلك كله، وفق الباحث، لا شك أن تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحّة في سوريا، ليتم التركيز على متطلبات “تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشكلات المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية”.

ميول إسلامية.. يعدلها تجاوز الاستقطابات

يرى الباحث السوري عبد الله تركماني، أن ثمة ميولًا واضحة لإدخال القيم والمبادئ والأحكام والممارسات الإسلامية في قوانين الدولة وممارساتها، أي وجود ما سماها بـ”دولة دينية، لها مهمة رئيسة هي تطبيق الشريعة”.

في حين يعتقد تركماني، أن ضمان الوصول إلى “دولة الحق والقانون” منوط بتحصين رئيس المرحلة الانتقالية بمجالس استشارية من أهل الكفاءات، وبأكثرية سياسية وفكرية واسعة، والإقلاع عن “الاعتقاد بالاكتفاء برجاله في إدلب”، إذ إن التحديات الاقتصادية والاجتماعية، التي تواجه المرحلة الانتقالية، بحسب ما قاله تركماني لعنب بلدي، تتطلب “تجاوز الاستقطابات الأيديولوجية في اتجاه توظيف كل الإمكانيات المتوفرة لإعادة بناء سوريا برجالها ونسائها وشبابها، إضافة إلى نسج شراكات استراتيجية عربية وإقليمية ودولية”.

كما يتطلب طمأنة تلك الدول، بأن الهدف الأساسي للسياسة الخارجية السورية هو “المساهمة في خلق وضع إقليمي ودولي، يتمتع بالتعاون المشترك، والاحترام المتبادل، والشراكات الاستراتيجية، ونبذ التطرف”.

وأشار الباحث إلى أن الحل لـ”الخروج من مأزق الدولة السورية المستمر” هو مغادرة ما سماه “بنيان الإقصاء والعنف” إلى رحاب بنية اجتماعية- سياسية- ثقافية تقوم على العمل المنتج واستثمار الموارد الاقتصادية والبشرية وزيادتها، وتحرر إرادة المواطن.

ولا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري، بحسب الباحث، لتصفية الحساب مع الماضي، وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، بحيث لا تُختزل الأمور بالفصل “التعسفي” بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي، إذ إن السوريين، إضافة إلى الحياة السياسية النشطة، أحوج ما يكونون إلى ضمان مستوى معيشي مناسب، بما يتطلب إصلاحًا شاملًا لكل مؤسسات الدولة، وفق الشرعة العالمية لحقوق الإنسان ومبادئ الحوكمة الرشيدة (المساءلة، والشفافية، والكفاءة)، بحسب ما قاله الباحث في مركز “حرمون للدراسات”.

ويتطلب الانتقال من فكر الثورة إلى فكر الدولة، بحسب تركماني، “الاجتهاد” في المفاهيم المتداولة لدى الرئيس ومساعديه، لتأكيد التوافق بين الأطياف الفكرية والسياسية والمكوّنات الطائفية والقومية، لضمان السلم الأهلي والوحدة الوطنية على أساس “المواطنة المتساوية”.

مشاركة المقال: