سأبدأ هذا النص بمقولة إن من يتبنّى نظرية «ضرب الظالمين بالظالمين» قد ظلم نفسه. حتى إيران بحد ذاتها ظلمت نفسها عندما تبنّت هذه النظرية وقت غزو العراق عام 2003. صدام حسين ظلم نفسه لأسباب أخرى، ذلك عندما طوّر الخلافات العربية-العربية إلى مستوى الغزو المباشر، واجترح صنفاً جديداً من الخلافات في نهاية القرن العشرين، ألا وهي الخلافات الإسلامية-الإسلامية التي انتهت بحربه مع إيران.
الجمهورية الإسلامية استفادت عندما «غزا الظالمون الظالم»، واليوم نرى فاتورة هذه «الاستفادة»، الحصار الاقتصادي وحرب الديبلوماسية النووية وجرّها إلى حرب اليمين ضد اليمين المنهِكة في سوريا وحرب الإبادة السياسية ضد حلفائها وصولاً إلى لبنان.
المذهل في خصوم إيران في المشرق العربي هو في تكرارهم الأخطاء ذاتها. الفرق الوحيد هنا أن فاتورة «استفادة وتشفي» جماعة «صدام الجديد»، أحمد الشرع، من «ضرب الظالمين بالظالمين» في لبنان في خريف العام السابق، قد دفع ثمنها بسرعة فائقة مساحات شاسعة من الاجتياح البرّي الإسرائيلي لسوريا.
هنا علينا أن نسأل أنفسنا، هل نملك ترف هذا الدعاء؟ أنا أفهم هذا الدعاء جيداً إن كان عن المتخاصمين البعيدين؛ أنا أفهم دعاء أن يضرب الله تشرشل بهتلر وترامب بإيلون ماسك، ونصف المجتمع الإسرائيلي بالنصف الآخر، وأن يضرب الحزب الساقط جنسياً في كاليفورينا، الحزب الديموقراطي، بالحزب الساقط جنسياً في فلوريدا، الحزب الجمهوري، ولكن أن نكون واقعيين بالمنتصف جغرافياً بين المتخاصمين؟ وأن يكون أحدهم أقوى من الآخر بكثير؟
هنا يصبح دعاء «ضرب الظالمين بالظالمين» تغطيةً على ما هو أكبر في مهجة الداعي. في السياق التاريخي لسورة الروم، كان على المؤمنين وقت ضعفهم أن يختاروا بين الفرس والروم، وكان هنالك أساس إيماني للمفاضلة، ولم يكن لديهم ترف، رغم المظلومية القرشية، أن يجعلوا أنفسهم ضحايا هذا العالم؛ كيف تنشر رسالة في عالم أنت تشعر بالمرارة منه؟ لذا كان عليهم أن يختاروا الروم على كسرى.
ما لا يطيقه أصحاب دعاء «ضرب الظالمين بالظالمين» هو أن أهل إيران ليسوا فحسب من أهل الكتاب بل هم من المسلمين، وأمّا إسرائيل، فهي ليست الروم (كما سوّقوا لسنوات) وإنما هي كسرى وفرعون وقارون وكل باغٍ. لهذا يتوارى هؤلاء وراء مقولة «ضرب الظالمين بالظالمين».
هؤلاء لا يريدون حتى خالد بن الوليد الذي هزم كسرى والروم معاً رمزاً من رموز السردية المكونة للعقد الاجتماعي لأمّتهم، هم لا يريدون سلمان الفارسي صاحب الخندق ولا النجاشي الحبشي المسيحي ولا صلاح الدين الكردي ولا حتى يريدون تذكّر قصّة مجازفة ابن عم الرسول بحياته من أجله كجزء من سرديّة أمّتنا، هم، أبناء «الناتو» المشرقيون، تماماً كأبناء «بوش» المشرقيين في السابق، لن يقبلوا بأقل من الفتنة (الفريق الأحدث يعشق شتم عبد الباري عطوان تماماً كما فعل الفريق الأقدم بعد عام 2003). وإذا كانت الفتنة أساس سرديّتك، فلربما أنت لا تستحقّ تكوين أمّة.
التواري الديني خلف «ضرب الظالمين بالظالمين»، يوازيه التواري العلماني (والديني كذلك أحياناً) خلف حجّة عدم اكتراث داعمي المقاومة بحياة الإنسان العربي (وهم بذلك صنف آخر من الظالمين). أولاً، لقد قرّر هذا العالم القذر أنّ حياة مليون عربي لا تساوي شيئاً منذ أن سلّح إسرائيل بالأسلحة النووية في السبعينيات. إذا كان الإيرانيون لم يقبلوا هذا على أنفسهم وأنت قبلت ذلك على نفسك، فلا تحدّثني عن تقديرك لقيمة حياة الإنسان العربي. ثانياً، أن تتحدّث عن الثمن البشري العربي الباهظ للمقاومة بينما تحتفي كل يوم بدفع هذا الثمن في غزة ولبنان والعالم العربي فداء لـ«سقوط المحور» الذي تعاديه، فهنا أنت لست «أبا الأخلاق والإنسانية» كما تدّعي.
هل ظلمت إيران الآخرين؟ كل الدول الحديثة الأمنية/الرأسمالية قادرة على الظلم. لكن هذا ليس سياقنا، ليس في هذه الأيام؛ عندما تقوم إسرائيل بعمل ما يشبه عدوان «بيرل هاربر» على إيران (بل هو أسوأ من ذلك بكثير، أقرب إلى اجتياح بربروسا الهتلري للاتحاد السوفياتي)، عندما تقوم إسرائيل بهذا العمل في وسط إبادتها لغزة، وإدارتها لمنظومة الفصل العنصري في الضفة، وعدوانها المستمر على لبنان، ودكّها لليمن، واجتياحها لجنوب سوريا، فهنالك معتدٍ واحد وهنالك ظالم واحد، وليس اثنان. حق الشعوب في الدفاع عن نفسها في المنطق والواقعية السياسية وميثاق الأمم المتحدة ليس رهناً لأدعيتك على «واتساب الجزيرة مباشر»!
* كاتب فلسطيني