تركي المصطفى
مقدمة: لحظة تاريخية على حافة التحول في لحظة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط، تقف سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد على مفترق طرق يحمل في طياته إمكانيات الاستقرار ومخاطر التصعيد، فقد تزامن السقوط مع فوضى سياسية وعسكرية، مما فتح الباب أمام تحركات إسرائيلية غير مسبوقة، تجاوزت حدود الادعاء بالدفاع التقليدي إلى توغل عميق في الأراضي السورية مبررة هذه الخطوات بمسوغات أمنية، تثير تساؤلات حول طموحات إسرائيل الإقليمية وتداعياتها على التوازن الهش في المنطقة. وفي هذا السياق المعقد، يبرز دور الولايات المتحدة كعامل حاسم لاحتواء الأزمة، وإعادة صياغة العلاقات بين دمشق وتل أبيب، ونسعى هنا إلى تقديم قراءة متأنية لهذه اللحظة الحرجة، متتبعين دلالاتها ومآلاتها في ضوء التحولات الجارية.
التحركات الإسرائيلية: من ادعاء الدفاع إلى الهيمنة لم تكن التحركات الإسرائيلية في سوريا وليدة اللحظة، بل هي نتاج استراتيجية طويلة الأمد تبلورت مع اندلاع الثورة السورية عام 2011. في تلك الفترة، ركزت إسرائيل على تعطيل "الجسر الإيراني" الذي يربط طهران بـ "ميليشيا حزب الله"، عبر غارات جوية استهدفت مواقع عسكرية إيرانية وشحنات أسلحة. لكن سقوط الأسد في ديسمبر 2024 شكّل نقطة تحول جذرية، إذ انتقلت إسرائيل من الضربات الجوية إلى نشر قوات برية، وإقامة مواقع عسكرية دائمة، مستغلة الفراغ الأمني الذي خلفه انهيار النظام. يستند عدوان إسرائيل إلى مبررات أمنية، تتمثل في منع انتقال أسلحة متطورة إلى ميليشيا حزب الله اللبناني، وحماية حدودها من تهديدات محتملة تنبع من فوضى سوريا، غير أن نطاق هذه العمليات، التي شملت السيطرة على مواقع استراتيجية تطل على دمشق ووادي البقاع، وإنشاء تسعة مواقع عسكرية في منطقة فصل القوات، وتوسيع الانتشار إلى عمق 15 كيلومترا داخل سوريا، يثير شكوكا واضحة حول ما إذا كانت هذه الخطوات تقتصر على الدفاع أم أنها تخفي طموحا لفرض منطقة نفوذ دائمة، ولعل نزع سلاح القرى الحدودية، والسيطرة على مساحات شاسعة، يحمل بذور تصعيد قد يتجاوز قدرة المنطقة على احتوائه.
موقف الحكومة السورية الجديدة في المقابل، تبنت الحكومة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لمواجهة هذا التحدي، استراتيجية ثلاثية الأبعاد، تجمع بين الحذر الدبلوماسي، والسعي للوحدة الداخلية، وتعزيز الشرعية الدولية، وذلك لاحتواء الاندفاعة الإسرائيلية، وإعادة التوازن إلى المشهد السوري.
أولا، التمسك باتفاقية فصل القوات: دبلوماسية الحذر يحرص الرئيس الشرع على التأكيد المتكرر على التزامه باتفاقية فصل القوات لعام 1974، التي أرست منطقة عازلة بين القوات السورية والإسرائيلية في مرتفعات الجولان. وهذا التأكيد ليس مجرد إشارة قانونية، بل خطوة دبلوماسية مدروسة تهدف إلى إظهار نواياه السلمية، وتجنب أي ذريعة قد تستغلها إسرائيل لتصعيد عملياتها. ومن خلال هذا الموقف، يسعى الشرع إلى نزع أي مبرر للتوغل العسكري الإسرائيلي، مؤكدا أن سوريا الجديدة لا تسعى إلى المواجهة، بل إلى استقرار حدودها، هذا النهج، الذي يتسم بإدراك عميق لمحدودية القدرات السورية في الوقت الراهن، يرمي إلى وضع إسرائيل في موقف حرج أمام الرأي العام الدولي، ووضعها في موقف دفاعي يبرز طابعها الاستفزازي.
ثانيا، توحيد الأطراف: تقويض الانقسامات الداخلية يركز الشرع على نزع أحد أهم أسلحة إسرائيل: والمتمثل باستغلال الانقسامات الطائفية والعرقية والمجتمعية في سوريا. إدراكا منه لمحاولات إسرائيل تعزيز نفوذها عبر بناء علاقات مع الطائفة الدرزية، أو استغلال التوترات في المناطق الكردية والعلوية، ويسعى الشرع إلى دمج الأطراف السورية – الشمال الشرقي، والساحل، والجنوب – ضمن إطار دولة موحدة. وهذا الجهد، الذي تجلى في اتفاقات مبدئية مع قوات سوريا الديمقراطية بقيادة الأكراد، ومحاولات احتواء التوترات في السويداء، يهدف إلى سد الثغرات التي قد تتيح لإسرائيل تعميق انقسامات البلاد. ولعل هذه الاستراتيجية المستندة إلى فهم دقيق لمسار التاريخ السوري الحديث، تجسد سعيا حثيثا لاستعادة السيادة الوطنية، وإجهاض المطامع الإسرائيلية في استغلال الاضطرابات الداخلية لتعزيز نفوذها.
ثالثا، تعزيز الشرعية الدولية: حشد الضغط الإقليمي والدولي يعمل الشرع على تعزيز قبوله كزعيم شرعي في أعين المجتمعين الإقليمي والدولي، بهدف حشد الضغط على إسرائيل للحد من تحركاتها العسكرية. ومن خلال خطاباته المتكررة التي تؤكد التزامه بالاستقرار وعدم التصعيد، يسعى الشرع إلى إقناع القوى الفاعلة – من واشنطن إلى أنقرة والرياض – بضرورة التدخل لكبح الاندفاعة الإسرائيلية. وذلك لاستعادة الوضع السابق في جنوب سوريا قبل انهيار نظام الأسد، حين كانت منطقة فصل القوات تكبح جماح التوترات المباشرة.
الدور الأمريكي: ضرورة استراتيجية للاستقرار في هذا السياق العاصف، يتبوأ الدور الأمريكي مكانة محورية لتطويق الأزمة، رغم التردد الأولي لإدارة ترامب في الانغماس في مرحلة ما بعد الأسد، فإن المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة – من دحر الإرهاب إلى كبح نفوذ إيران– تستلزم تدخلا ملحا. وعلى واشنطن أن تسعى لدعم بناء جيش سوري متماسك، وأن تخفف العقوبات لتخفيف الأعباء الاقتصادية، كما يجب إجراء حوار مع إسرائيل لضبط اندفاعاتها، مع التشديد على وجوب الاقتصار على إجراءات دفاعية ضمن حدود منطقة فصل القوات، عوضا عن التوغل العميق الذي قد يؤجج شرارة التوترات.
منطقة عازلة إسرائيلية: بذور التصعيد إن فكرة إقامة منطقة عازلة إسرائيلية داخل سوريا، التي تبلورت مع الانتشار العسكري الواسع، تحمل مخاطر جمة، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، ولعل فرض نزع السلاح على مناطق واسعة، والسيطرة على مواقع استراتيجية، قد يحفز ظهور جماعات مقاومة، مما يغذي الصراع ويزيد التهديدات، وهذا السيناريو، الذي بدأت بوادره تظهر مع احتجاجات الحكومة السورية، ينذر بتصعيد قد يمتد أثره إلى ما هو أبعد من الحدود السورية. لذا، يتعين على إسرائيل إعادة تقييم نهجها، والعودة إلى مواقعها في منطقة فصل القوات وجبل الشيخ، والتوقف عن تنفيذ غاراتها الجوية المتكررة. فالأمن الحقيقي لا يبنى عبر احتلال الأراضي، بل عبر تفاهمات سياسية تضمن الاستقرار المتبادل.
القضية الدرزية: توازن دقيق تضيف المسألة الدرزية تعقيدا إضافيا للمشهد السوري بعد أن تعهدت إسرائيل بحماية الطائفة الدرزية في السويداء، وأطلقت برامج لدعمها اقتصاديا، لكن الدروز أنفسهم منقسمون بين تيار يسعى لتعزيز التعاون مع إسرائيل، بقيادة شخصيات مثل الشيخ حكمت الهجري، وتيار آخر يفضل التفاوض مع دمشق للحفاظ على وضع شبه مستقل، مدعوم من فصائل مثل "رجال الكرامة" يقوده "ليث البلعوس"، ولعل فكرة انفصال الدروز تبقى بعيدة المنال، نظرا لتفضيل الأغلبية الدرزية البقاء ضمن سوريا مع سلطات لا مركزية.
في هذا السياق المضطرب، تبرز الحاجة إلى تفاهمات غير مباشرة بين إسرائيل والحكومة السورية الجديدة كضرورة ملحة، عبر وساطة دولية، لمعالجة التوترات وتجنب التصعيد. والفرصة متاحة الآن للوصول إلى ترتيبات حول قضايا حساسة، تشمل:
- القضية الدرزية: ضمان التزام إسرائيل بعدم تشجيع الدروز على الانفصال بما يحفظ الوحدة السورية.
- تحديث اتفاقية 1974: صياغة إطار جديد لأمن الحدود، يوسع القيود العسكرية ويرسي آليات تنسيق عبر طرف ثالث.
- مكافحة الإرهاب: من خلال منع عودة الحرس الثوري الإيراني وميليشيا حزب الله، وتفكيك الخلايا الفلسطينية المسلحة المندرجة تحت النفوذ الإيراني.
- نزاع جبل دوف: توضيح الشرع للسيادة السورية على المنطقة عبر قنوات دولية، لدعم مفاوضات الحدود اللبنانية دون حوار مباشر مع إسرائيل.
يمكن للولايات المتحدة أن تقود هذا الحوار، مستلهمة نجاحها في الوساطة بين لبنان وإسرائيل، لضمان استقرار دائم.
خاتمة إن سوريا ما بعد الأسد تقف على مفترق طرق مصيري. فإما أن تتحول إلى ساحة صراع إقليمي جديد، تغذيه التوغلات الإسرائيلية والاستفزازات المتبادلة، وإما أن تشهد بداية تعاون غير مسبوق في المنطقة. وهذه اللحظة، التي تجمع بين المخاطر والفرص، تتطلب حكمة سياسية نافذة، وإرادة دبلوماسية قادرة على تجاوز الحسابات الضيقة. ففي قلب هذا المشهد المضطرب، تكمن إمكانية إعادة صياغة المنطقة على أسس الاستقرار والتعايش، شريطة أن تسود الرؤية الثاقبة والشجاعة لصنع السلام العادل. إن مصير سوريا، ومعه استقرار الشرق الأوسط، يتوقف على الخيارات التي ستتخذها الأطراف الفاعلة في هذه اللحظة التاريخية.