بواقعية وصراحة، وبغض النظر عما يتوهمه البعض بشأن جدوى "الصبر الاستراتيجي"، تواجه الجمهورية الإسلامية الإيرانية مفترق طرق وجوديًا لنظامها الحاكم. مصير النظام ومساره يقع في أيدي قلة تتنازع على تحديد طريق الإنقاذ. السؤال المحوري: هل تعديل جوهري لعقيدة النظام هو السبيل لبقائه، أم أن التمسك الحرفي بالعقيدة يضمن استمراره؟
توقيت الإجابة على هذا السؤال أصبح ملحًا بسبب السياسة والاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران، والتي أطلقت العد التنازلي لأحد أمرين: إما أن يعيد النظام اختراع نفسه على أسس مختلفة عن العقيدة النووية واستخدام الوكلاء والميليشيات لتصدير الثورة والتوسع الإقليمي والتخريب والترهيب، أو المواجهة العسكرية المباشرة لتدمير البرنامج النووي الإيراني، مع استمرار عمليات قطع أذرع النظام الممتدة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. لقد انتهى زمن "الصبر الاستراتيجي"، وعلى قادة طهران مراجعة استراتيجيتهم بسرعة ووضوح.
أكتب هذا المقال قبيل انعقاد المحادثات الهامة بين إدارة الرئيس دونالد ترامب والجمهورية الإسلامية الإيرانية في عُمان، وهي الأولى منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض. بغض النظر عما حدث في عُمان، من الضروري التعمق في تفكير قادة واشنطن وطهران تجاه بعضهم البعض، وتجاه إيران كدولة وموقعها الإقليمي، ومستقبل اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، ومصير النظام في طهران.
تشير ملامح المباحثات، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، إلى أن قادة النظام في إيران يتخبطون في محاولة لشراء الوقت وإنقاذ ماء الوجه وإيجاد صيغ للهروب إلى الأمام. يدرك أركان النظام تمامًا جدية الرئيس ترامب في إنذاره واستعداده لتوجيه ضربة عسكرية موجعة للمنشآت النووية التي تمثل ساقًا أساسية في عقيدة النظام. كما يدركون أن الساق الأخرى، المتمثلة في الوكلاء، قد بُتِرت. يعرفون أن حالة ساقي النظام متزعزعة، ويرتعدون خوفًا حتى وهم يكابرون ويهددون إسرائيل.
يتصور قادة طهران، أو يسوقون هذا التصور للاستهلاك الداخلي والإقليمي، أن إدارة ترامب مستعدة للتخلي عن إصرارها على تغيير سلوك إيران الإقليمي مقابل تنازلات في برنامجها النووي. هذا هراء. الأفضل للحكومة الإيرانية أن تحسن قراءة ما في ذهن الرئيس الأمريكي إذا كانت تريد البقاء في السلطة، ليس لأن ترامب مهتم بالإطاحة بالنظام، بل لأن دفن الرؤوس في الرمال ليس في مصلحة إيران.
للتذكير، الرئيس الأميركي الذي أطاح بتفاهمات أوباما مع إيران رافضًا السلوك الإقليمي ودعم الميليشيات هو جو بايدن وليس دونالد ترامب. إدارة بايدن هي التي مكّنت إسرائيل من تنفيذ عملياتها ضد "حزب الله" في لبنان و"حماس" في غزة، بسلاح متفوق واستخبارات دقيقة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وبنصائح القيادة المركزية الأميركية.
استفاد ترامب مما فعله بايدن لناحية شلّ ذراع إيران الأساسية، "حزب الله" في لبنان. في سوريا، حيث دُفن مشروع "الهلال الفارسي"، رأى ترامب أن هذا إنجاز أردوغان. في العراق، يبحث فريق ترامب في وسائل قطع الطريق على استغلال إيران لموارد العراق واحتواء الحشد الشعبي. وفي اليمن، يمضي ترامب في استكمال العمليات العسكرية للقضاء على الحوثي.
القول بأن إدارة ترامب مستعدة لتبني نهج أوباما باستبعاد السلوك الإقليمي هو استغباء أو جهل بتفكير ترامب. الأمور وصلت إلى اللا عودة، ولا مجال لتنازل أو تراجع ترامب عن إصراره على قيام إيران بتصفية سياسية لوكلائها، وإلا بحسم عسكري تدفع ثمنه إيران.
إذا فهمت إيران قيمة المعروض عليها من مكافآت تتعدى رفع العقوبات، ودخولها في تطبيع العلاقات الثنائية، فعليها أن تستوعب أنه لا مناص من الاستغناء عن عقيدة الوكلاء والميليشيات.
الأفضل لقادة إيران دعم التحييد الإيجابي لوكلائهم وإبلاغ الأذرع بهذا التغيير في العقيدة، وأن الوقت حان للامتثال لسيادة الدولة التي ينتمون إليها بدلاً من إنشاء دولة بولاء لإيران داخل الدولة المعنية. هذا يعني أن على قادة طهران إبلاغ قيادات "حزب الله" والحرس الثوري والحوثي أن الوقت حان لتسليم سلاحهم إلى الدولة.
ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية يعكس إما خبثًا ومراوغة، أو تخبطًا داخل القيادات الإيرانية انعكس على قيادات داخل "حزب الله" والحشد الشعبي والحوثي. فتارة يُسرَّب أن طهران جاهزة للتخلي عن الحوثيين، ثم نسمع بأن إيران تضاعف دعمها وتموضعها هناك.
نسمع تارة أن "حزب الله" يفكر بالتخلي عن سلاحه، ثم ينكشف أن الحرس الثوري الإيراني ما زال يمثله ميدانيًا في لبنان، ويخطط مع "حزب الله" لإعادة استخدام مرفأ بيروت لتهريب وتصنيع الأسلحة وإحياء الأنفاق. هذا إضافة إلى تصريحات لرجال "حزب الله" تفيد صراحة أن الحزب لن يتخلى عن سلاحه.
مؤشرات السياسات الإيرانية نحو العراق لا تفيد بأن طهران مستعدة للسماح للحشد الشعبي بتسليم سلاحه إلى الدولة العراقية. كذلك، ليس هناك ثقة بأن الحرس الثوري أقر بهزيمته في سوريا. فبينما كانت طهران تستعد للمباحثات في عُمان، تبيّن أنها كانت تبعث الصواريخ المتطورة إلى الحشد الشعبي في العراق.
بمعنى آخر، تبدو قيادات الجمهورية الإسلامية الإيرانية غير جاهزة للتخلي عن ساق الوكلاء والأذرع الأساسية في عقيدة النظام. هذه القيادات تعتقد أن شراء الوقت سيرحل الضغوط عليها وسيمكنها من التسويف حتى استعادة قدراتها وقدرات الوكلاء. إنها تملي على الناطقين باسمها تبني مزاعم اتفاق بينها وبين فريق ترامب بأن المباحثات ستكون حصراً حول الملف النووي.
معنى هذا أن إيران تحاول التنصل من استحقاقات المفاوضات المباشرة وتسعى أن تكون المحادثات حصراً في الملف النووي، كي تبقى بدون محاسبة على سلوكها الإقليمي وساق الوكلاء.
فكرة صناع القرار في طهران هي أن الدخول في مباحثات حول الملف النووي سيؤدي إلى استدراج البيت الأبيض إلى بازار المفاوضات حول هذه المسألة ذات الأولوية للولايات المتحدة. وهكذا تكسب الوقت الضروري لتجنب الضربة العسكرية، وإعادة لملمة وكلائها، والتهرب من استحقاقات التمسك بساقي عقيدتها. ما في ذهن إدارة ترامب يتضارب تمامًا مع ما تسعى وراءه حكومة طهران.
خلاصة ما توجه به فريق ترامب إلى عُمان هو أن تكون هناك جولة واحدة يمكن وصفها بأنها جلسة إبلاغ الشروط والمطالب التي يصر عليها البيت الأبيض، وبالتالي، تكون جلسة إنذار وليس جولة مفاوضات. هذه فرصة لإيران لتسمع بوضوح ما يترتب على خيارها من مكافآت، وإلا الإنذار الواضح بعواقب الرفض.
فريق ترامب حرص أولاً على عدم السماح بوصف الاجتماع بأنه مباحثات تقليدية، وثانياً، أكد على الناحية الزمنية على أساس الرفض القاطع لأفق زمني مفتوح مع تحديد فترة شهر أو شهرين أمام قبول إيران بالرزمة.
ما تضمنته تلك الرزمة انطلق من إصرار أميركي على فتح إيران كامل منشآتها النووية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع القبول بمراقبة أوسع، ولتحقيق هدف تفكيك البرنامج النووي الإيراني. هذا طلب أوضحت إيران أنه مرفوض كلياً، لكنها فتحت باب المقايضة بحديثها عن اتفاق مؤقت ومرحلي حول الموضوع النووي.
الرزمة التي كانت في جيب الفريق الأميركي بقيادة ستيف ويتكوف تضمنت إصرار البيت الأبيض على توقف إيران عن شحن الأسلحة والصواريخ والذخيرة إلى وكلائها في اليمن والعراق ولبنان، والكف عن استخدام الوكلاء لزعزعة دول المنطقة، وإدخال الصواريخ الباليستية على قائمة التنازلات الإيرانية.
ثم أن في الرزمة عنصر إسرائيل، بحيث يريد فريق ترامب من طهران أن تلتزم بأمن إسرائيل وعدم اتخاذ أي خطوات ضدها.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تتبنى التعهد بتدمير إسرائيل لن تكون مستعدة للتعهد بأمن إسرائيل. الفريق الإيراني توجه إلى عُمان بهدف العمل على فتح صفحة الحوار والنقاش عبر الاستماع والإصغاء ثم طلب الوقت لهضم ومراجعة المطالب والخيارات. طهران في حاجة لشراء الوقت كي تعمل على تخفيض حدة العواقب. أما إذا استنتجت ألا مجال للأخذ والعطاء، قد تستخدم طهران العصا التي تهدد بها، وهي الانتقام من البيت الأبيض من خلال توجيه ضربة عسكرية لإسرائيل يشعر بوجعها سيد البيت الأبيض.
مباحثات الفرصة الأخيرة في عُمان قد لا تظهر نتائجها بصورة فورية سيما إذا نجحت طهران في السيطرة على نفسها أمام نبرة الإملاء والإنذار الأميركية. قد تعض طهران على أصبعها لأن لشراء الوقت أولوية. إنما في نهاية المطاف، لن تتمكن إيران من إبقاء باب الديبلوماسية والحوار مفتوحاً.
في نهاية المطاف، وعاجلاً، على رجال الحكم في طهران أن يقرروا ما هي سبل الحفاظ على استمرارية النظام علماً أن بقاء النظام هو الأولوية القاطعة لهم حتى لو كان على حساب بقاء إيران. عليهم أن يقرروا إن كان تعديل العقيدة بالساق النووية وساق الوكلاء هو الضمان لبقاء النظام. أو إن كان استمرار النظام بعقيدته القرار الأخير حتى وإن كان ذلك، عملياً، يعني تدمير النظام.