الجمعة, 16 مايو 2025 12:31 AM

ازدهار اللغة الكردية في سوريا يواجه تحديات الاعتراف: هل تنجح جهود الحفاظ على الهوية؟

ازدهار اللغة الكردية في سوريا يواجه تحديات الاعتراف: هل تنجح جهود الحفاظ على الهوية؟

اللغة الكردية في سوريا: سنوات من الازدهار تصطدم بهواجس عدم الاعتراف

في السنوات العشر الأخيرة، شهدت اللغة الكردية ازدهاراً تعليمياً وثقافياً، بعد عقود من حرمان الكرد من تعلم لغتهم الأم أو الكتابة بها. وفي سوريا الجديدة يرفضون العودة إلى الوراء ويكافحون من أجل الاعتراف بحقهم.

الطالبة سيما أحمد تحضر دروسها باللغة الكردية
الطالبة سيما أحمد تحضر دروسها باللغة الكردية في منزلها بحي قناة السويس في مدينة القامشلي، شمال شرق سوريا، 15/ 05/ 2025، (سوزدار محمد/ سوريا على طول)

القامشلي– في منزلها بحي قناة السويس في مدينة القامشلي، شمال شرق سوريا، تعكف سيما أحمد، 16 عاماً، على مراجعة دروسها وكتابة واجباتها المدرسية باللغة الكردية، لغتها الأم، التي “تعكس هويتي وانتمائي”، على حد قولها. بدأت سيما تعلم لغتها على يد والدها، الذي حرص على تعليمها “القراءة والكتابة في المنزل” منذ نعومة أظفارها، للحفاظ على الهوية الكردية من الضياع، بعد أن مُنعوا من تعلم لغتهم أو الكتابة بها أو ممارسة طقوسهم، كإحياء عيد النوروز، لعدة عقود في زمن نظام الأسد (الأب والابن).

عاشت سيما صدمتها الأولى مع جدار اللغة، عندما دخلت المرحلة التحضيرية (الروضة)، التي كانت تعتمد اللغة العربية في التعليم كلغة أساسية وحيدة، حينها “لم أستطع التفاعل مع المعلمة ولا أن أفهم ما يدور من حديث حولي”، كما قالت لـ”سوريا على طول”. في العام التالي، التحقت سيما بمدرسة كردية، ومن حينها تتعلم بلغتها الأم، التي يحتفل الكرد بها في مثل هذا اليوم من كل عام، وهو الموافق 15 أيار/ مايو، وقضت كل سنوات تعليمها باللغة الكردية كلغة أساسية، لكنها لا تعلم عن مستقبلها في ظل الإدارة السورية الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، التي توصلت إلى اتفاق مع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، في 10 آذار/ مارس الماضي، يقضي بدمج المؤسسات الحكومية في مناطق نفوذ الأخيرة مع الدولة السورية.

رحلة سيما مع اللغة لا تقتصر على تعلم قواعدها، وإنما “درستُ النحو والأدب، وتعرفت على التاريخ والثقافة الكردية”، وهذا كان يزيد من شغفها بالتعلم، كما قالت. قال والدها حكيم أحمد، 46 عاماً، الذي يزور العاصمة دمشق هذه الأيام: “أمس أرسلت لي ابنتي مقطعاً مصوراً وهي تشرح الفرق بين الملحمة والأسطورة مع أمثلة من التراث الكردي والعالمي، وأنا فخور بذلك”، مشدداً في حديثه لـ”سوريا على طول” أن اللغة الكردية تمثل “الهوية والثقافة”. عندما كان طالباً في جامعة حلب، طلب والد سيما مع مجموعة من زملائه، خلال مؤتمر طلابي عام 2001، إضافة اللغة الكردية لمناهج الجامعة، لكن “اتهمنا رئيس اتحاد الطلبة بمحاولة المساس بالوحدة الوطنية، وهددنا بأنه سيقطع ألسنتنا وأيدينا إذا كررنا المطالبة بذلك”، على حد قوله.

تهميش وإقصاء

قبل اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، كانت زهريبان حسين، 29 عاماً، كغيرها من كرد سوريا، محرومون من استخدام لغتهم أو التحدث بها في الأماكن العامة، لذا كانت ترى “استحالة أن يتم تعليم الأطفال باللغة الكردية أو أن تكون هناك مؤسسات تعليمية خاصة بهذه اللغة”، كما قالت لـ”سوريا على طول” من مكان إقامتها في القامشلي، وهي تنحدر من عفرين، في شمال غرب سوريا. عادت زهريبان بشريط ذكرياتها إلى أيام الطفولة، عندما صُدمت بأن “التعليم في المدارس باللغة العربية” بينما كانت لا تعرف العربية ولا أبجديتها، لأن اللغة الكردية هي اللغة الحاضرة في بيتها وبين أبناء منطقتها.

في المرحلة الابتدائية، كانت زهريبان من ضمن 45 طالباً في الصف، جميعهم من الكرد باستثناء ستة أشخاص من المكون العربي، لذا كانت تتحدث مع زملائها وزميلاتها في المدرسة باللغة الكردية إلى أن “هدّدتنا المعلمة من التحدث بلغتنا، ومن يفعل ذلك سوف يُعاقب بالنزول إلى غرفة [العقاب] في قبو المدرسة”. “لم نفهم حينها لم مُنعنا من التحدث باللغة الكردية، وكنا نتساءل دائماً: لماذا نتحدث بالكردية في البيت ونُجبر على العربية في المدرسة؟”، قالت زهريبان. نشأ الكثير من الطلبة الكرد على اللغة الكردية المحكية من دون معرفة أبجديتها وقواعدها، كما هو حال زهريبان، التي كانت تعتقد أن “اللغة الكردية لغة محكية ليس لها أبجدية ولا قواعد لغوية”، وفقاً لها.

لم ترمِ سياسات حزب البعث العربي الاشتراكي (الحاكم)، الذي حُل في مطلع العام الحالي، إلى منع اللغة الكردية فحسب، وإنما “تجاوزت المنع إلى حرب نفسية تهدف إلى تشويه صورتها [عند باقي المكونات السورية] حتى صار من يتحدث الكردية عرضة للاتهام بالتخلف وعدم مواكبة التطور”، بحسب زهريبان. ورغم أن حرية الرأي والتعبير كانت أهم مطالب الثورة السورية، إلا أن موقف المعارضة السورية وطيف من السوريين لم تتغير تجاه اللغة الكردية، إذ استمر العمل على تهميشها في المؤسسات الرسمية والتعليمية، حتى في المناطق ذات الغالبية الكردية، ولاحقاً لم تعترف المعارضة السياسية السورية بالشهادات الصادرة عن الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، التي تعتمد التعليم باللغة الأم للطلبة في مناطق نفوذها.

إنجاز تاريخي

قبل اندلاع الثورة السورية بسنوات قليلة، نشط تعليم اللغة الكردية سراً في المنازل ضمن مجموعات صغيرة في عدة مناطق كردية في سوريا، وتطور النشاط تدريجياً بعد اندلاعها، إذ أطلقت عدة مدارس، في الثلث الأخير من عام 2011، دورات لتعليم اللغة الكردية، بحسب سميرة حج علي، الرئيسة المشتركة لهيئة التربية والتعليم في شمال شرق سوريا، التابعة للإدارة الذاتية، معتبرة أن ما حصل في ذاك العام “خطوة تاريخية ومصدر فخر واعتزاز كبير للكرد”.

وشكلت “ثورة 19 تموز 2012″، التي أدت بطرد نظام الأسد من شمال شرق سوريا وأسست لحكم الإدارة الذاتية، نقطة فارقة بالنسبة للكرد، “عندما بدأت مؤسسة اللغة الكردية (SZK)، بتنظيم دورات لتعليم اللغة بشكل علني”، كما أوضحت حج علي لـ”سوريا على طول”، مشيرة إلى أنه في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، تم إدخال مادة اللغة الكردية إلى 97 مدرسة كانت ما تزال تحت إشراف النظام السوري السابق في عين العرب (كوباني).

ومن ثم، بدأت مؤسسة المناهج التابعة للإدارة الذاتية، التي تم تأسيسها في عام 2014، بإعداد مناهج دراسية باللغة الكردية، من قبل فريق كانت نواته سبعة أشخاص وتوسع إلى أكثر من مئة عضو، مع الاستعانة بعدد من الخبراء، بحسب حج علي. وفي العام الدراسي 2012-2013، أدخلت ثلاث حصص أسبوعية لتعليم اللغة الكردية في مدارس كوباني وعفرين والجزيرة السورية، وشملت جميع الصفوف من الأول الابتدائي حتى الثانوية العامة، واستمر ذلك حتى عام 2015-2016، حيث ألغيت مناهج النظام السوري بالكامل (باستثناء المدارس الواقعة ضمن المربعات الأمنية التي كانت تخضع لسيطرته)، وتم اعتماد مناهج الإدارة الذاتية وبدأ تطبيق مبدأ التعليم باللغة الأم من الصف الأول حتى السادس الابتدائي في جميع مدارس كوباني وعفرين، بينما اقتصر التعليم باللغة الأم في مدارس الجزيرة على الصفوف الثلاثة الأولى من المرحلة الابتدائية، وفقا لحج علي.

وفي العام الدراسي 2016-2017، تم توسيع مبدأ التعليم باللغة الأم ليشمل المراحل الإعدادية والثانوية في كوباني وعفرين، بينما اقتصرت منطقة الجزيرة آنذاك على التعليم حتى الصف السادس الابتدائي. وفي عام 2020، اعتمدت الجزيرة مناهج الإدارة الذاتية بشكل كامل ليشمل المرحلتين الإعدادية والثانوية أيضاً. وبذلك، تم تعميم التعليم باللغة الأم في جميع المراحل، لتصبح لغات المكونات (العربية، الكردية، والسريانية) معتمدة بشكل رئيسي في النظام التعليمي بمناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، بعكس ما كان في زمن النظام السابق عندما فرضت اللغة العربية كلغة وحيدة على جميع المكونات دون مراعاة تنوعهم اللغوي والثقافي.

يبلغ عدد الطلبة الذين يتعلمون بلغتهم الأم في مدارس الإدارة الذاتية 714,214 طالب وطالبة، من بينهم 102,142 من المكون الكردي، 612,047 من المكون العربي، و25 طالباً وطالبة من المكون السرياني، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من هيئة التربية والتعليم التابعة للإدارة الذاتية.

وكذلك، افتتحت هيئة التربية والتعليم العديد من الجامعات في المناطق الكردية، أولها جامعة عفرين، التي تأسست عام 2016، ومن ثم جامعة “روج آفا” في القامشلي بمحافظة الحسكة، التي تأسست في ذات العام. “كان حلمنا أن يكون لنا مدارس وجامعات ندرس فيها باللغة الكردية، وأن نكتب أسماء قرانا وشوارعنا بلغتنا، وقد تحقق هذا الحلم”، قالت زهريبان، التي بدأت بتعلم أبجدية لغتها وقواعدها في عام 2012، معتبرة أن ما حصل خلال هذه السنوات “ليس مجرد إنجاز لغوي، وإنما شعور عميق بالفخر والانتماء. شعور بالانتصار، لأننا استطعنا أن نقول للعالم أننا نملك لغة وتاريخاً وهوية وجذوراً”.

وخلال السنوات العشر الأخيرة، افتتحت العديد من دور النشر الكردية، التي تُعنى بطباعة ونشر الكتب باللغة الكردية، وشجعت على “الكتابة باللغة الكردية في مختلف العلوم”، كما أسهمت في نهضة ثقافية كردية تؤسس لثورة ثقافية”، كما قال الكاتب الكردي مروان بركات، وهو من منطقة عفرين ويقيم حالياً في القامشلي. وكذلك، ظهرت العشرات من الفرق الفنية والتجمعات المسرحية، كما نُظمت العديد من المسرحية والسينمائية وعروض الأفلام الوثائقية باللغة الكردية.

تحديات تواجه الكردية

في آذار/ مارس 2025، وقع الرئيس السوري أحمد الشرع على دستور، الذي نص في المادة السابعة على أن “تكفل الدولة التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته، والحقوق الثقافية واللغوية لجميع السوريين”، من دون أن يتضمن الإعلان أي مواد تتناول بشكل مباشر حقوق الكرد وغيرهم من الأقليات في سوريا.

ورغم صدور العديد من المراسيم والقرارات عن الإدارة السورية الجديدة، لم تصدر أية قرارات بشأن اللغة الكردية، تشير إلى أنها واحدة من اللغات الرسمية في البلاد، أو توضح مستقبلها. تعليقاً على ذلك، قال عبدو شيخو، مدير منشورات نقش وهي دار نشر في القامشلي، أن “الإعلان الدستوري المؤقت لا يعترف بالشعب الكردي ولا اللغة الكردية، ويكاد يكون إعلاناً دستورياً بعثياً متدّثراً بالعباءة الدينية”، على حدّ وصفه. وعبّر شيخو في حديثه لـ”سوريا على طول” عن تخوفه من “استمرار تجاهل اللغة الكردية من قبل السلطة المركزية في دمشق، وعدم التعامل معها كلغة وطنية تمثل شعباً أصيلاً في سوريا”.

لكن ما يزعج الطالبة سيما أحمد ليس مسألة الاعتراف حالياً، وإنما “نظرة الناس للتعليم باللغة الكردية، متسائلين: كيف لطالبة متفوقة أن تضيع مستقبلها في المدارس الكردية”، رغم أنها تفتخر بالتعلم بلغتها، على حد قولها. عدا عن العقبات التي قد تعترض اللغة الكردية والناطقين بها في سوريا الجديدة، هناك “تحديات على صعيد حياة اللغة ذاتها، منها: عدم وجود مجمع لغوي، والمعاجم الكردية لا تلبي احتياجات ومقتضيات العصر، وفي شروحها غموض، وفي تبويبها لبس”، بحسب الكاتب بركات.

وكذلك، تعاني اللغة الكردية من “غياب المؤلفات والمراجع التي تفي باحتياجات السلك التعليمي، لا سيما التعليم العالي”، بحسب فيان حسن، الرئيسة المشتركة لمؤسسة اللغة الكردية، قائلة: “أدّت عقود من القمع والإنكار إلى حالة من الجمود القسري استمرّت أكثر من سبعين عاماً، لم يصدر خلالها أي إنتاج علمي أو تربوي باللغة الكردية. نحن اليوم في طور تعويض هذا النقص التاريخي من خلال جهود مكثفة ومضاعفة”. وشددت حسن على ضرورة “ترسيخ الكردية كلغة رسمية ووظيفية بمختلف مناحي الحياة” في سوريا الجديدة، مضيفة: “لدينا أجيال كاملة لم تتلق تعليمها بلغتها الأم، وتعاني من اغترابٍ لغوي، ونسعى إلى سد هذه الفجوة عبر دورات تعليمية مكثفة، وبرامج متخصصة في تعليم اللغة عبر وسائل التواصل الاجتماعي”.

من أجل ذلك، تطالب هيئة التربية والتعليم في شمال شرق سوريا، الحكومة السورية الجديدة أن تعتمد اللغة الكردية إلى جانب العربية لغة رسمية في البلاد، ويتم ضمان وتأكيد التعليم بهذه اللغة في الدستور السوري، إضافة إلى الاعتراف بالنظام التعليمي ومصادقة الشهادات الصادرة من هيئة التربية والتعليم في شمال شرق سوريا، “وهو حق لا نقبل أن يتم إقصاؤه مرة أخرى كما فعل النظام السلطوي السابق”، بحسب سميرة حج علي، الرئيسة المشتركة للهيئة.

وفي هذا الإطار، تواصلت هيئة التربية والتعليم، بالتنسيق مع مكتب الاستشارة والتنسيق التابع لقائد سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، مع منظمة اليونيسيف، بهدف فتح قنوات حوار رسمية مع وزارة التربية والتعليم في حكومة دمشق، وبدأت أولى هذه الخطوات باجتماع عبر الإنترنت، جرى خلاله مناقشة وضع الطلبة في شمال شرق سوريا، بما في ذلك مسألة تصديق الشهادات وامتحانات الطلاب الذين ما زالوا يقدمون امتحاناتهم، بحسب حج علي، معتبرة أن الاجتماع كان “إيجابياً”.

عقب ذلك، زار وفد من هيئة التربية والتعليم العاصمة دمشق في 13 و14 نيسان/ أبريل الماضي، وعقد اجتماعاً مباشراً مع ممثلي وزارة التربية والتعليم في الحكومة الجديدة، نوقشت فيه عدة ملفات من بينها ملف العملية الامتحانية وتدريس اللغة الكردية وعدد من القضايا التربوية الأخرى “وقد جرى تدوين بعض النقاط على شكل اتفاق أولي”، بحسب حج علي.

لكن إلى الآن، لم تتلق الهيئة أي رد رسمي من وزارة التربية والتعليم، خاصة فيما يتعلق بملف تصديق الشهادات والعملية الامتحانية للطلاب الذين يتبعون مناهج الدولة في شمال شرق سوريا، وفقاً لحج علي. تواصلت “سوريا على طول” مع وزير التربية والتعليم، ، للحصول على تصريح بخصوص مستقبل اللغة الكردية في المنظومة التعليمية الرسمية، لكن لم تتلق أي رد حتى لحظة نشر هذا التقرير. الوزير تركو ينحدر من عفرين في شمال غرب سوريا.

ورغم الأصوات التي تحيط بها من كل اتجاه، محذرة من أن المستقبل لا ينتظر من يدرس في مدارس غير معترف بها، تواصل سيما مسيرتها التعليمية بجد، قائلة: “نحن كطلاب لن نقبل أن تُهدر عشرة سنوات من تعلم لغتنا الأم، ولدينا أمل كبير بأن تعترف الحكومة السورية باللغة الكردية، لأن هذا حقنا الطبيعي”. يتمنى والدها أن تتمكن سيما وإخوتها من “تحقيق أحلامهم أكاديمياً من دون أن يضطروا إلى التخلي عن لغتهم الأم”، وأن تكون اللغة الكردية “حاضرة في كل الميادين: الأدبية والعلمية والفلسفية”.

مشاركة المقال: