الأربعاء, 3 ديسمبر 2025 07:05 AM

أبو فراس الحمداني: الليل والدموع يرسمان ملامح النفس الإنسانية في "رومياته"

أبو فراس الحمداني: الليل والدموع يرسمان ملامح النفس الإنسانية في "رومياته"

رنا بغدان: لطالما كان الليل، ولا يزال، رفيقاً للأرق وسميراً للساهرين، يجدون فيه محفزاً للذكريات التي تطرق أبواب الخيال والذاكرة، وتقتحم الخواطر والأفكار، وتهاجم القلب والعقل. وتبقى النجوم أنيسة الليل في سهاده، وشاهدة على وقوعه واستمراره. أما الدموع، فهي اللغة الوحيدة التي تتحدث بها العيون، واصفة حال ذارفها. فما الذي أوحى به الليل للشاعر الأسير "أبو فراس الحمداني"، الذي ألف صحبته وأطلق لدموعه العنان في عتمته الحالكة، فأبدع "الروميات" التي تجسد حقائق النفس الإنسانية الخالدة في غربتها وحزنها وشوقها الدائم إلى التعبير عن ذاتها وعن كل ما يختلج في صدرها من مشاعر؟

تعبير عن الذات

الأسر، في جوهره، تجربة حزن عميقة، نرى فيها حقائق النفس الإنسانية الخالدة. وقد ازدانت "الروميات" بتصوير عواطف الشاعر الصادقة والمخلصة تجاه نفسه وأهله وأصدقائه ووطنه، في صور شكلها في خياله واستقاها من العالم المحسوس، بالإضافة إلى الصور النفسية والعقلية التي لا يمكن إغفالها، والتي نفذ من خلالها إلى أعماق النفس البشرية، مصوراً إياها في مختلف انفعالاتها، بعد أن صهرت الآلام نفسه وحركت فيها لواعج الحزن والأسى، وألم الوحدة، وغصة الاغتراب، وذكرى الوطن، خاصة في بداية أسره، حين قال:

أراك عصـي الدمـع شيمتـك الصبـر
أمــا للهوى نـهـي عـلـيـك ولا أمـــر
بلـى ، أنـا مشتـاق وعنـدي لـوعـة
ولـكـن مثـلـي لا يـــذاع لـــه ســـر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهـوى
وأذللـت دمعـاً مـن خلائـقـه الكـبـر

ألم الأسر

في الأسر، أقام أبو فراس في "خرشنة" تحت وطأة القيود والعلة التي ألمت به إثر إصابته بسهم بقي نصله في فخذه، فصدرت أشعاره عن صدر مثقل وقلب جريح. وكانت أمه هي الملاذ الأول في محنته، فكتب إليها وقد يئس من تغير أحواله، يعزيها ويذكر لها ما يعانيه في الليل الطويل الذي لا تتحرك نجومه، فتوقظ الجراح وتزيد غربته آلاماً فوق آلام، قائلاً:

وأسرٌ أقاسيهِ، وليلٌ نجومهُ،
أَرَى كُلّ شَيْءٍ، غَيرَهُنّ، يَزُولُ
وَإنّ، وَرَاءَ السّتْرِ، أُمّاً بُكَاؤهَا
عَلَيّ، وَإنْ طالَ الزّمَانُ، طَوِيلُ!

وتجسد قصيدته الدالية التي أرسلها في بداية أسره إلى سيف الدولة ما يعانيه من الآلام في الليل القاتم، طالباً من أميره افتداءه، شاكياً وحدته، ومبتدئاً إياها بالدعوى الموجهة من نفس حزينة ومن عيون وجفون قرحت من كثرة البكاء والسهر، فقال:

دعوتك للجفن القريح المسهد
لدي، وللنوم القليل المشرد

الملاذ بالطبيعة

في ظل ظروفه القاسية، كان من الطبيعي أن يمتزج حنين أبو فراس وشوقه إلى دياره ومن فيها بالشكوى من بعد الأحبة وما يعتاده من سهاد وقد نام الناس عن مواجعه وغفل أحباؤه عن آلامه، فلم يجد أمامه إلا الطبيعة التي لاذ بمجاليها ومشاهدها المختلفة، محاولاً تشخيصها في صور كائنات حية تحس وتتحرك وتنبض بالحياة، فبثها آلامه ولواعجه وحملها أشواقه وتحياته. فحاور السحب مقارناً بين دموعه ودموعها، وتسلّم من الريح رسائل شوق ومودة أتته ممن يحب، وتوحد بنجوم السماء التي أسقط عليها مشاعره وأحاسيسه، وأصبحت تربطه بها علاقة وجدانية جعلتها تشاركه همه وحيرته من مكانها العالي، وتشفق عليه وترثي لحاله وتكاد تبكي من أجله في قوله:

ما لنجوم السماء حائرة !
أحالها في بروجها حالي ؟

أنين الشكوى

سادت الشكوى الحزينة اليائسة المصبوغة بالدم شعر أبي فراس، الذي استفحلت مشاعر الأسى في نفسه لما طال أسره ولم ينهض أميره وابن عمه إلى افتكاكه، فجار بشكواه محولاً شعره إلى أنين موصول وتوجع مستمر ونجوى حزينة، رقيقة كنفسه، عذبة كروحه، عميقة كإحساسه، شفافة كوجدانه. وقد عبر شاعرنا عن أزمته النفسية بالنسبة لأقربائه مستخدماً صور الكناية، حيث قدم لنا صورة تفضح زيف علاقة القربى الخالية من الود، وأسلك الدهر في عداد حاسديه وأعدائه، وشبه لياليه القاتمة بأقاربه وأهله الذين أهملوا أمره ونسوا فضله وتجافوا عنه وتراخوا في وداده. وكذلك الحساد وما فعلوا به من عدم الوفاء وإنكار العهود، فقال وهو يسفح الدمع ويرتجي الفكاك :

فريد عن الأحباب صب، دموعه
مثان، على الخدين، غير فرائد

مشاركة المقال: